شهد الحقل التربوي العالمي، ولا سيما في القرن العشرين، تحولات عميقة في نماذجه التفسيرية والممارساتية، مدفوعاً بتطور العلوم الإنسانية والمعرفية. وفي خضم هذا التطور، برز نموذجان بيداغوجيان حظيا باهتمام واسع نظراً لمنهجيتهما المنظمة وسعيهما نحو الوضوح: بيداغوجيا الأهداف التي هيمنت على الفكر التربوي لعقود، والتعليم الصريح الذي يفرض نفسه اليوم كنموذج رائد يستند إلى أحدث نتائج البحث العلمي حول التعلم البشري. إن العلاقة بين هاتين المقاربتين ليست مجرد مسألة تاريخية أو تقنية، بل تطرح إشكالية إبستمولوجية عميقة:
هل يمثل التعليم الصريح مجرد تطوير أو تحسين لبيداغوجيا الأهداف، أم أنه يشكل قطيعة جذرية مع منطلقاتها النظرية؟
يهدف هذا المقال إلى الدفاع عن فرضية القطيعة الإبستمولوجية بين النموذجين. فبالاستناد إلى مفهوم القطيعة كما صاغه الفيلسوف غاستون باشلار في فلسفة العلوم، والذي يرى أن التقدم العلمي لا يتحقق عبر التراكم الخطي للمعرفة بل عبر قطائع وثورات تنسف المسلمات القديمة وتؤسس لبراديغم جديد ، يرى هذا التحليل أن الانتقال من بيداغوجيا الأهداف إلى التعليم الصريح ليس مجرد تعديل في الأدوات، بل هو انتقال من براديغم سلوكي إلى براديغم معرفي. ففي حين أن المقاربة السلوكية، التي تشكل الأساس النظري لبيداغوجيا الأهداف، تتعامل مع عقل المتعلم باعتباره "صندوقاً أسود" لا يمكن دراسة ما بداخله، وتركز حصراً على السلوك الخارجي القابل للملاحظة، فإن الثورة المعرفية جاءت لتفتح هذا الصندوق الأسود وتجعل من العمليات الذهنية الداخلية (الفهم، التفكير، الذاكرة) الموضوع المركزي للدراسة العلمية، وهو ما يشكل جوهر التعليم الصريح.
تكتسي هذه الإشكالية أهمية قصوى في السياق التربوي المغربي، الذي اعتمد بيداغوجيا الأهداف بشكل رسمي خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، قبل أن ينتقل إلى المقاربة بالكفايات التي واجهت بدورها تحديات في التنزيل. واليوم، ومع التوجه العالمي نحو الممارسات التربوية القائمة على الأدلة العلمية، يطرح التعليم الصريح نفسه كبديل واعد. إن فهم طبيعة العلاقة بينه وبين بيداغوجيا الأهداف ليس ترفاً فكرياً، بل هو شرط أساسي لتوجيه السياسات التعليمية وبرامج التكوين، وتجنب الخلط المفاهيمي الذي قد يؤدي إلى تطبيق مشوه للمقاربات الحديثة، عبر إفراغها من أسسها المعرفية والاكتفاء بقشرتها الإجرائية السطحية.
للبرهنة على فرضية القطيعة، سينطلق هذا التقرير من تحليل معمق للأسس النظرية والإبستمولوجية لكلا النموذجين، ثم ينتقل إلى مقارنة جوهرية تكشف عن الاختلافات العميقة وراء التشابهات الظاهرية، ليخلص إلى تبيان كيف أن التعليم الصريح يقدم حلولاً علمية للمحدوديات البنيوية التي عانت منها بيداغوجيا الأهداف. وأخيراً، سيتم ربط هذا التحليل النظري بالسياق المغربي، وتبيان أهمية هذا التحول البيداغوجي المنشود لتطوير المنظومة التربوية.
تغيير في السلوك الخارجي القابل للملاحظة والقياس. يتم تحليل السلوك المُراد تعليمه إلى أبسط مكوناته (سلوكات جزئية)، ويُنظر إلى المتعلم ككائن يستجيب للمثيرات التي يقدمها له المحيط (المعلم، المحتوى، التمرين). إذا كانت الاستجابة صحيحة، يتم تعزيزها لزيادة احتمال تكرارها في المستقبل؛ وإذا كانت خاطئة، يتم إطفاؤها أو معاقبتها لتقليل احتمال ظهورها.
في هذا النموذج، تُعتبر العمليات العقلية الداخلية كالفهم والتفكير والاستدلال والاستنتاج بمثابة "صندوق أسود"، أي أنها عمليات غير قابلة للملاحظة المباشرة، وبالتالي لا يمكن دراستها بشكل علمي موضوعي، ومن ثم يتم تجاهلها في تصميم العملية التعليمية. فالمهم ليس كيف يفكر المتعلم، بل هل يستطيع إظهار السلوك الصحيح في نهاية المطاف. هذا التصور يضع المتعلم في موقع المتلقي السلبي نسبياً، الذي يتم "تشكيل" سلوكه عبر التحكم في المثيرات والتعزيزات الخارجية.
ولتصنيف هذه الأهداف وتنظيمها، تم الاعتماد بشكل واسع على صنافة بلوم التي قسمت الأهداف التربوية إلى ثلاثة مجالات: معرفي، ووجداني، وحسي-حركي. وركز المجال المعرفي على تراتبية من المهارات تبدأ من التذكر والفهم، وتصعد نحو التطبيق والتحليل والتركيب والتقويم. لقد كان الهدف من كل هذه الأدوات هو جعل العملية التعليمية عملية "علمية"، واضحة، ومنظمة، وقابلة للتقويم الموضوعي، وهو ما شكل في حينه ثورة على العفوية والارتجال في الممارسة التربوية.
من هنا، يصبح الهدف الأسمى للتصميم التعليمي هو تسهيل عملية بناء وتخزين السكيمات في الذاكرة طويلة الأمد، وذلك عبر إدارة العبء المعرفي المفروض على الذاكرة العاملة المحدودة. وتقسم النظرية العبء المعرفي إلى ثلاثة أنواع :
يهدف هذا المقال إلى الدفاع عن فرضية القطيعة الإبستمولوجية بين النموذجين. فبالاستناد إلى مفهوم القطيعة كما صاغه الفيلسوف غاستون باشلار في فلسفة العلوم، والذي يرى أن التقدم العلمي لا يتحقق عبر التراكم الخطي للمعرفة بل عبر قطائع وثورات تنسف المسلمات القديمة وتؤسس لبراديغم جديد ، يرى هذا التحليل أن الانتقال من بيداغوجيا الأهداف إلى التعليم الصريح ليس مجرد تعديل في الأدوات، بل هو انتقال من براديغم سلوكي إلى براديغم معرفي. ففي حين أن المقاربة السلوكية، التي تشكل الأساس النظري لبيداغوجيا الأهداف، تتعامل مع عقل المتعلم باعتباره "صندوقاً أسود" لا يمكن دراسة ما بداخله، وتركز حصراً على السلوك الخارجي القابل للملاحظة، فإن الثورة المعرفية جاءت لتفتح هذا الصندوق الأسود وتجعل من العمليات الذهنية الداخلية (الفهم، التفكير، الذاكرة) الموضوع المركزي للدراسة العلمية، وهو ما يشكل جوهر التعليم الصريح.
تكتسي هذه الإشكالية أهمية قصوى في السياق التربوي المغربي، الذي اعتمد بيداغوجيا الأهداف بشكل رسمي خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، قبل أن ينتقل إلى المقاربة بالكفايات التي واجهت بدورها تحديات في التنزيل. واليوم، ومع التوجه العالمي نحو الممارسات التربوية القائمة على الأدلة العلمية، يطرح التعليم الصريح نفسه كبديل واعد. إن فهم طبيعة العلاقة بينه وبين بيداغوجيا الأهداف ليس ترفاً فكرياً، بل هو شرط أساسي لتوجيه السياسات التعليمية وبرامج التكوين، وتجنب الخلط المفاهيمي الذي قد يؤدي إلى تطبيق مشوه للمقاربات الحديثة، عبر إفراغها من أسسها المعرفية والاكتفاء بقشرتها الإجرائية السطحية.
للبرهنة على فرضية القطيعة، سينطلق هذا التقرير من تحليل معمق للأسس النظرية والإبستمولوجية لكلا النموذجين، ثم ينتقل إلى مقارنة جوهرية تكشف عن الاختلافات العميقة وراء التشابهات الظاهرية، ليخلص إلى تبيان كيف أن التعليم الصريح يقدم حلولاً علمية للمحدوديات البنيوية التي عانت منها بيداغوجيا الأهداف. وأخيراً، سيتم ربط هذا التحليل النظري بالسياق المغربي، وتبيان أهمية هذا التحول البيداغوجي المنشود لتطوير المنظومة التربوية.
الجزء الأول: الأسس النظرية والإبستمولوجية للنموذجين البيداغوجيين
الفصل الأول: بيداغوجيا الأهداف: عقلنة الفعل التربوي ضمن النموذج السلوكي
لم تظهر بيداغوجيا الأهداف من فراغ، بل كانت نتاجاً لسياق تاريخي وفكري محدد، سعى إلى إخضاع الفعل التربوي لمنطق العقلنة والضبط والفعالية، مستلهماً نماذجه من عوالم الصناعة والجيش، ومتكئاً بشكل حاسم على النظرية السلوكية في علم النفس.المرتكزات الفلسفية والصناعية
نشأت بيداغوجيا الأهداف في الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف القرن العشرين، متأثرة بمصدرين رئيسيين خارج حقل التربية. المصدر الأول هو الفلسفة البراغماتية التي تركز على النتائج العملية الملموسة والأثر الفعلي للأفكار. والمصدر الثاني، الأكثر تأثيراً على المستوى الإجرائي، هو الحاجة إلى عقلنة الإنتاج في المجال الصناعي، وتحديداً النموذج التايلوري الذي يقوم على تجزئة العمليات المعقدة إلى مهام بسيطة وقابلة للقياس بهدف رفع المردودية والتحكم في سيرورة الإنتاج. لقد تم استعارة هذا المنطق وتطبيقه على التعليم، حيث أصبح الهدف هو "إنتاج" تعلمات محددة وموحدة لدى جميع المتعلمين من خلال عملية تعليمية مضبوطة ومُقننة.الهيمنة السلوكية: نموذج المثير-الاستجابة والصندوق الأسود للعقل
الأساس السيكولوجي الحاسم لبيداغوجيا الأهداف هو النظرية السلوكية، خاصة في صيغتها التي طورها "بورهوس فريدريك سكينر". تُعرف هذه النظرية أيضاً بنظرية "المثير والاستجابة". من منظورها، التعلم ليس عملية ذهنية داخلية، بل هو مجردتغيير في السلوك الخارجي القابل للملاحظة والقياس. يتم تحليل السلوك المُراد تعليمه إلى أبسط مكوناته (سلوكات جزئية)، ويُنظر إلى المتعلم ككائن يستجيب للمثيرات التي يقدمها له المحيط (المعلم، المحتوى، التمرين). إذا كانت الاستجابة صحيحة، يتم تعزيزها لزيادة احتمال تكرارها في المستقبل؛ وإذا كانت خاطئة، يتم إطفاؤها أو معاقبتها لتقليل احتمال ظهورها.
في هذا النموذج، تُعتبر العمليات العقلية الداخلية كالفهم والتفكير والاستدلال والاستنتاج بمثابة "صندوق أسود"، أي أنها عمليات غير قابلة للملاحظة المباشرة، وبالتالي لا يمكن دراستها بشكل علمي موضوعي، ومن ثم يتم تجاهلها في تصميم العملية التعليمية. فالمهم ليس كيف يفكر المتعلم، بل هل يستطيع إظهار السلوك الصحيح في نهاية المطاف. هذا التصور يضع المتعلم في موقع المتلقي السلبي نسبياً، الذي يتم "تشكيل" سلوكه عبر التحكم في المثيرات والتعزيزات الخارجية.
تقنين الممارسة: صياغة الأهداف الإجرائية وتصنيفاتها
لترجمة هذه الأسس النظرية إلى ممارسة صفية، برزت تقنية "الأجرأة" كآلية مركزية. وتُعد صياغة الأهداف الإجرائية التي وضعها "روبرت ماجر" أشهر تجليات هذه التقنية. حسب ماجر، لكي يكون الهدف قابلاً للقياس والتحقق، يجب أن يصف بدقة ثلاثة عناصر:- السلوك النهائي المنتظر: الفعل الذي سيقوم به المتعلم والذي يدل على حدوث التعلم (مثال: "أن يُعرّف"، "أن يُقارن"، "أن يحسب").
- شروط الإنجاز: الظروف التي سيُظهر فيها المتعلم ذلك السلوك (مثال: "باستخدام الخريطة"، "دون الاستعانة بالآلة الحاسبة").
- معيار الأداء المقبول: المستوى الأدنى من الإتقان الذي يعتبر دليلاً على تحقق الهدف (مثال: "بنسبة نجاح 80%"، "خلال خمس دقائق").
ولتصنيف هذه الأهداف وتنظيمها، تم الاعتماد بشكل واسع على صنافة بلوم التي قسمت الأهداف التربوية إلى ثلاثة مجالات: معرفي، ووجداني، وحسي-حركي. وركز المجال المعرفي على تراتبية من المهارات تبدأ من التذكر والفهم، وتصعد نحو التطبيق والتحليل والتركيب والتقويم. لقد كان الهدف من كل هذه الأدوات هو جعل العملية التعليمية عملية "علمية"، واضحة، ومنظمة، وقابلة للتقويم الموضوعي، وهو ما شكل في حينه ثورة على العفوية والارتجال في الممارسة التربوية.
الفصل الثاني: التعليم الصريح: التدريس المنظم على ضوء بنية العقل البشري
على النقيض من بيداغوجيا الأهداف التي استمدت شرعيتها من علم النفس السلوكي، انبثق التعليم الصريح من رحم الثورة المعرفية، مستنداً إلى فهم عميق لكيفية عمل الدماغ البشري وسيرورات معالجة المعلومات. ورغم أنه يتقاسم مع سابقه سمة التنظيم والوضوح، إلا أن منطلقاته وأهدافه النهائية تختلف بشكل جذري.الثورة المعرفية: من السلوك إلى سيرورات معالجة المعلومات
شكلت الثورة المعرفية في منتصف القرن العشرين نقطة تحول حاسمة في تاريخ علم النفس. فبفضل تطور علوم الحاسوب ونظريات معالجة المعلومات، وبفعل النقد اللاذع الذي وجهه اللساني "نعوم تشومسكي" للنظرية السلوكية في تفسيرها لاكتساب اللغة، تحول اهتمام البحث العلمي من دراسة السلوك الخارجي إلى استكشاف العمليات الذهنية الداخلية. أصبح العقل لا يُنظر إليه كصندوق أسود، بل كمعالج للمعلومات، له بنيته الخاصة وقوانينه التي تحكم عمله. وفي هذا البراديغم الجديد، يُعرَّف التعلم بأنه ليس مجرد تغيير في السلوك، بل هو تغيير في البنيات المعرفية أو "السكيمات" المخزنة في الذاكرة طويلة الأمد للمتعلم.المرتكز المحوري: نظرية العبء المعرفي
تُعد نظرية العبء المعرفي، التي طورها عالم النفس الأسترالي "جون سويلر" منذ الثمانينيات، الركيزة العلمية الأساسية التي يقوم عليها التعليم الصريح. تفترض هذه النظرية أن البنية المعرفية البشرية تتكون أساساً من ذاكرة عاملة وذاكرة طويلة الأمد.- الذاكرة العاملة: هي المساحة الذهنية التي نعالج فيها المعلومات الجديدة بوعي. لكن قدرتها محدودة جداً، حيث لا تستطيع التعامل إلا مع عدد قليل من العناصر الجديدة في آن واحد.
- الذاكرة طويلة الأمد: هي مستودع ضخم وغير محدود السعة، تُخزن فيه المعارف والمهارات على شكل "سكيمات" أو مخططات معرفية. عندما نتعامل مع معلومات مألوفة ومخزنة في الذاكرة طويلة الأمد، فإن حدود الذاكرة العاملة تتلاشى.
من هنا، يصبح الهدف الأسمى للتصميم التعليمي هو تسهيل عملية بناء وتخزين السكيمات في الذاكرة طويلة الأمد، وذلك عبر إدارة العبء المعرفي المفروض على الذاكرة العاملة المحدودة. وتقسم النظرية العبء المعرفي إلى ثلاثة أنواع :
- العبء المعرفي الأصيل: يتعلق بالصعوبة الجوهرية للمادة الدراسية نفسها.
- العبء المعرفي الدخيل أو غير الملائم: ينتج عن طريقة عرض المعلومة وتصميم الأنشطة التعليمية. هذا هو العبء "الضار" الذي يجب على المعلم تقليله إلى أقصى حد.
- العبء المعرفي الملائم أو الفعال: هو الجهد العقلي الموظف في عملية الفهم العميق وبناء السكيمات. هذا هو العبء "المفيد" الذي يجب على المعلم تعزيزه.
إن التصميم التعليمي الفعال، من منظور هذه النظرية، هو الذي يقلل العبء الدخيل (مثلاً، عبر تقديم المعلومات بوضوح وتجنب المشتتات) ويدير العبء الأصيل (عبر تجزئة المهارات المعقدة)، لكي يتيح للذاكرة العاملة المحدودة أن تركز مواردها على العبء الملائم، أي على عملية التعلم الحقيقية.
مبادئ التدريس الفعال
بناءً على هذه الأسس المعرفية، قام باحثون مثل "باراك روزنشاين" و"سيغفريد إنغلمان" بتجميع وتطوير استراتيجيات التدريس التي أثبتت الأبحاث فعاليتها، والتي تُعرف اليوم بمبادئ التعليم الصريح أو التدريس المباشر. هذه المبادئ ليست مجرد وصفات جاهزة، بل هي تطبيقات عملية لنظرية العبء المعرفي. من أهم هذه المبادئ التي لخصها روزنشاين :- المراجعة اليومية: لتقوية الروابط في الذاكرة طويلة الأمد وتنشيط المعارف السابقة.
- تقديم المادة الجديدة في خطوات صغيرة: لإدارة العبء المعرفي الأصيل وتجنب إغراق الذاكرة العاملة.
- طرح عدد كبير من الأسئلة: للتحقق المستمر من الفهم وتوفير فرص لاسترجاع المعلومات.
- تقديم النماذج: حيث يقوم المعلم بحل المسألة أو أداء المهارة ويفكر بصوت عالٍ، ليجعل عملياته الذهنية الخفية مرئية للمتعلمين.
- الممارسة الموجهة: حيث يتدرب المتعلمون تحت إشراف المعلم وتوجيهه المباشر.
- التحقق من الفهم: للتأكد من عدم تكون تمثلات خاطئة.
- ضمان نسبة نجاح عالية: لتعزيز الثقة والتمكن قبل الانتقال إلى الممارسة المستقلة.
إن هذه المبادئ، مجتمعة، تشكل نموذجاً بيداغوجياً متكاملاً لا يهدف فقط إلى تغيير السلوك، بل إلى بناء فهم عميق ومستدام من خلال احترام الطريقة التي يعمل بها العقل البشري.
الجزء الثاني: تحليل مقارن: من التشابه السطحي إلى الاختلاف الجوهري
قد يبدو للوهلة الأولى أن هناك استمرارية وتطوراً خطياً بين بيداغوجيا الأهداف والتعليم الصريح، نظراً لتقاسمهما بعض السمات الهيكلية. إلا أن تحليلاً أعمق يكشف أن هذا التشابه سطحي ويخفي قطيعة إبستمولوجية حقيقية في المنطلقات، والأهداف، والممارسات.الفصل الثالث: وهم الاستمرارية: التقاطعات الظاهرية في التنظيم والوضوح
يمكن رصد عدد من نقاط التشابه الظاهرية التي أدت إلى الاعتقاد بأن التعليم الصريح ما هو إلا نسخة محدثة من بيداغوجيا الأهداف. وتتجلى هذه التقاطعات في السعي المشترك نحو عقلنة وتنظيم الفعل التربوي:- التمركز حول أهداف محددة: كلا النموذجين يرفض العفوية ويبدأ بتحديد واضح ومسبق لما يجب على المتعلم أن يعرفه أو يكون قادراً على فعله في نهاية الوحدة التعليمية.
- الدور المحوري للمعلم: في كلتا المقاربتين، يلعب المعلم دوراً مركزياً في التخطيط والتنظيم والتوجيه. فهو ليس مجرد مسهل أو مرشد، بل هو قائد العملية التعليمية الذي يحدد المسار ويختار المحتوى وينظم الأنشطة.
- التدرج في بناء التعلمات: تعتمد المقاربتان على مبدأ تجزئة المادة التعليمية المعقدة إلى عناصر أو خطوات أبسط، يتم تقديمها للمتعلم بشكل متسلسل ومنظم.
- أهمية التقويم والممارسة: يحظى التقويم بأهمية كبرى في النموذجين للتحقق من مدى تحقق الأهداف المسطرة، كما تشكل الممارسة والتمرين جزءاً أساسياً من سيرورة التعلم.
هذه السمات المشتركة (الوضوح، التنظيم، التدرج، دور المعلم) هي التي تخلق "وهم الاستمرارية". لكنها في الحقيقة مجرد بنية سطحية تخفي اختلافات جوهرية وعميقة في طبيعة وهدف كل عنصر من هذه العناصر.
الفصل الرابع: القطيعة الإبستمولوجية: الانتقال من السلوك الخارجي إلى البناء المعرفي الداخلي
تتجلى القطيعة الحقيقية عند تجاوز البنية السطحية والغوص في الأسس النظرية التي توجه كل مقاربة. فالاختلاف ليس في درجة التنظيم، بل في طبيعة ما يتم تنظيمه وهدفه النهائي. فالانتقال من بيداغوجيا الأهداف إلى التعليم الصريح هو انتقال من التركيز على المنتوج السلوكي الخارجي إلى الاهتمام بالسيرورات المعرفية الداخلية.
إن الفارق الأساسي يكمن في الإجابة على سؤال "ما هو التعلم؟". بالنسبة لبيداغوجيا الأهداف، التعلم هو تغيير في الأداء (ماذا يفعل المتعلم؟). أما بالنسبة للتعليم الصريح، فالتعلم هو تغيير في المعرفة والبنية العقلية (كيف يفكر المتعلم وكيف يبني فهمه؟). هذا الاختلاف الجذري في تعريف موضوع العلم (التعلم) هو ما يجعلنا نتحدث عن قطيعة إبستمولوجية. فالتعليم الصريح لم يأتِ ليُحسّن أدوات قياس السلوك، بل جاء ليغير موضوع القياس نفسه، من السلوك إلى الفهم.
ففي حين أن الهدف في بيداغوجيا الأهداف هو "سلوك قابل للملاحظة والقياس"، فإن الهدف في التعليم الصريح هو "بناء سكيما معرفية متينة وقابلة للاستدعاء في الذاكرة طويلة الأمد". وعليه، فإن الخطأ في النموذج السلوكي هو مجرد استجابة فاشلة يجب تصحيحها، بينما هو في النموذج المعرفي مؤشر ثمين يكشف عن طريقة تفكير المتعلم وتمثلاته الخاطئة، ويشكل منطلقاً لتقديم تغذية راجعة دقيقة وموجهة. كما أن مرحلة الشرح والنمذجة في التعليم الصريح، حيث يفكر المعلم بصوت مسموع، ليست مجرد تلقين، بل هي عملية مقصودة لجعل العمليات الذهنية الخفية مرئية وقابلة للتعلم، وهو بعد غائب تماماً في المقاربة السلوكية التي لا تعترف بوجود هذه العمليات كموضوع للدراسة أصلًا.
الجدول التالي يلخص هذه الفروقات الجوهرية التي تبرهن على وجود قطيعة إبستمولوجية وليس مجرد تطور خطي.
جدول 1: تحليل مقارن معمق بين بيداغوجيا الأهداف والتعليم الصريح
الجزء الثالث: التعليم الصريح كتجاوز علمي لمحدوديات بيداغوجيا الأهداف
إن اعتبار التعليم الصريح مجرد نسخة محسنة من بيداغوجيا الأهداف يغفل حقيقة أنه جاء كنموذج بديل يقدم إجابات علمية للقصور البنيوي الذي كشفت عنه المقاربة السلوكية في مجال التربية. فهو ليس تطويراً ضمن نفس البراديغم، بل هو تجاوز قائم على براديغم مختلف وأكثر قدرة على تفسير وتوجيه التعلم المعقد.الفصل الخامس: تشريح نقدي لمحدوديات المقاربة السلوكية في التربية
رغم مساهمتها في عقلنة التخطيط التربوي، واجهت بيداغوجيا الأهداف، كامتداد تطبيقي للسلوكية، انتقادات جوهرية أدت إلى التفكير في تجاوزها. من أبرز هذه المحدوديات:- تفتيت المعرفة وتجزيء المعنى: أدت الأجرأة المفرطة للأهداف إلى تجزئة المواد الدراسية إلى وحدات سلوكية صغيرة ومنعزلة. هذا التفتيت، وإن كان يسهل القياس، فإنه يقتل المعنى ويجعل من الصعب على المتعلم بناء رؤية كلية ومترابطة للموضوع، مما يعيق التعلم ذا المعنى ويجعل المعرفة المكتسبة هشة وصعبة النقل إلى سياقات جديدة.
- إهمال العمليات العقلية العليا: بتركيزها الحصري على السلوك القابل للملاحظة، فشلت بيداغوجيا الأهداف في استهداف وتنمية مهارات التفكير العليا كالتفكير النقدي، وحل المشكلات المعقدة، والإبداع، والتحليل، والتركيب. فهذه المهارات هي عمليات داخلية معقدة لا يمكن اختزالها في سلوك بسيط ومباشر. لقد أنتجت هذه المقاربة متعلمين قادرين على التذكر والتطبيق في سياقات مشابهة، لكنهم يعانون من صعوبة في التعامل مع الوضعيات الجديدة وغير المألوفة.
- آلية التعلم والتصور الاختزالي للمتعلم: حولت المقاربة السلوكية في كثير من الأحيان المتعلم إلى كائن آلي يستجيب للمثيرات دون فهم عميق للروابط والأسباب الكامنة وراءها. لقد اختزلت المتعلم في بعده السلوكي، وأهملت أبعاده المعرفية (المعارف السابقة، التمثلات، استراتيجيات التفكير) والوجدانية (الدافعية الداخلية، الفضول) والسوسيو-ثقافية، والتي تلعب دوراً حاسماً في عملية التعلم.
الفصل السادس: التعليم الصريح كاستجابة علمية: إدارة الإدراك وبناء الفهم العميق
يأتي التعليم الصريح ليقدم إطاراً نظرياً وعملياً يتجاوز هذه النقائص بشكل مباشر، ليس عبر تعديلات طفيفة، بل عبر استبدال المنطق السلوكي بمنطق معرفي.
منع الحمل المعرفي الزائد كشرط للتعلم: يقدم التعليم الصريح، من خلال استناده إلى نظرية العبء المعرفي، تفسيراً علمياً لسبب فشل المتعلمين في الكثير من الأحيان: إغراق الذاكرة العاملة بمعلومات تفوق طاقتها على المعالجة. ويقدم استراتيجيات عملية (مثل التدرج في تقديم المادة، تجزئة المهارات، الوضوح، تجنب المشتتات) لإدارة هذا العبء، وهو مفهوم كانت بيداغوجيا الأهداف تتجاهله تماماً لأنها لا تعترف أصلاً بالذاكرة العاملة كمكون أساسي في التعلم.
النمذجة والتفكير بصوت عالٍ كبوابة لعقل الخبير: بدلاً من إبقاء عمليات التفكير "في الصندوق الأسود"، تفتح النمذجة هذا الصندوق وتجعل استراتيجيات الخبير في حل المشكلات مرئية ومسموعة للمتعلم المبتدئ. هذه التقنية تعلم الطلاب كيفية التفكير وكيفية مقاربة المشكلات، وليس فقط حفظ الحلول. إنها تعالج بشكل مباشر قصور السلوكية في التعامل مع العمليات العقلية العليا.
التفويض التدريجي للمسؤولية لبناء الاستقلالية: يقدم نموذج ("أنا أفعل" - "نحن نفعل" - "أنتم تفعلون") هيكلاً واضحاً للانتقال من الدعم الكامل للمتعلم إلى الاستقلالية التامة. هذا الانتقال المنظم والمدروس يضمن بناء التمكن الحقيقي والثقة بالنفس، ويتجاوز منطق "التلقين ثم الاختبار" الذي قد يميز بعض التطبيقات السلوكية.
تنمية ما وراء المعرفة لتحقيق تعلم مستدام: عبر نمذجة استراتيجيات التفكير وتشجيع المتعلمين على شرح طرق حلهم للمشكلات، يساعد التعليم الصريح على تنمية الوعي بالعمليات الذهنية الذاتية (ما وراء المعرفة). يصبح المتعلم قادراً على التفكير في تعلمه، واختيار الاستراتيجيات المناسبة، وتقييم مدى فهمه، وهي مهارات أساسية للتعلم مدى الحياة، وهو بعد غائب كلياً عن المنظور السلوكي.
بهذا، لا يكون التعليم الصريح مجرد "إصلاح" لبيداغوجيا الأهداف، بل هو نموذج جديد مبني على علم مختلف (علم النفس المعرفي) يهدف إلى تحقيق غايات مختلفة (الفهم العميق والتمكن المستقل) عبر وسائل مختلفة (إدارة العبء المعرفي والنمذجة).
الجزء الرابع: التداعيات على السياسة والممارسة التربوية في السياق المغربي
إن فهم طبيعة العلاقة بين بيداغوجيا الأهداف والتعليم الصريح كقطيعة إبستمولوجية له تداعيات هامة وعملية على صياغة السياسات التعليمية وتوجيه الممارسة التربوية في المغرب، خاصة في ظل السعي المتواصل لإصلاح المنظومة وتجويدها.الفصل السابع: قراءة تاريخية-نقدية للسياسات البيداغوجية بالمغرب
مرت المنظومة التربوية المغربية بتحولات بيداغوجية كبرى، شكل فهم مسارها ضرورة لتحديد التوجهات المستقبلية.- تحليل فترة تطبيق بيداغوجيا الأهداف (1985-1999): تم تبني بيداغوجيا الأهداف في المغرب ابتداء من منتصف الثمانينيات في سياق سعى إلى "عقلنة" التعليم وتجاوز المقاربة بالمضامين. لكن هذا التبني، كما تشير بعض التحليلات النقدية، كان "مبهماً وملتبساً".7 ففي الممارسة العملية، غالباً ما تم اختزال المقاربة في جانبها الإجرائي التقني المتمثل في الصياغة الشكلية للأهداف، دون استيعاب عميق لخلفياتها النظرية. وقد أدى هذا التطبيق الميكانيكي إلى تفاقم بعض سلبيات المقاربة، كتفتيت المعارف، والتركيز على الحفظ والاسترجاع، وإهمال بناء المعنى والمهارات العليا، وهي الانتقادات التي وُجهت للمقاربة على المستوى الدولي.
- الانتقال إلى المقاربة بالكفايات وتقييمها: جاء الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 1999 ليعلن القطيعة مع بيداغوجيا الأهداف وتبني المقاربة بالكفايات، كمدخل بيداغوجي جديد يهدف إلى تجاوز التجزئة والتركيز على تعبئة الموارد لحل وضعيات-مشكلة معقدة. ورغم أن هذا الانتقال كان يمثل خطوة متقدمة على المستوى النظري، إلا أن تنزيله على أرض الواقع واجه صعوبات جمة. فقد أشارت تقارير متعددة، بما فيها تقاريرالمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، إلى استمرار ضعف تحكم المتعلمين في التعلمات الأساسية، ووجود تحديات كبيرة في التكوين والتأطير، وصعوبة في ترجمة منطق الكفايات إلى ممارسات صفية فعالة. هذا الوضع يفتح الباب أمام التساؤل حول النماذج البيداغوجية الأكثر فعالية لدعم بناء هذه الكفايات، خاصة في المراحل الأولى من التعلم.
خاتمة:
في نهاية هذا التحليل، نخلص إلى أن العلاقة بين بيداغوجيا الأهداف والتعليم الصريح ليست علاقة تطور خطي أو تحسين تدريجي، بل هي علاقة قطيعة إبستمولوجية عميقة. إنه انتقال من براديغم إلى آخر، من نموذج سيكولوجي إلى آخر، ومن فلسفة تربوية إلى أخرى. فبينما استندت بيداغوجيا الأهداف إلى النموذج السلوكي الذي يختزل التعلم في تغيير الأداء الخارجي ويتجاهل العمليات العقلية، فإن التعليم الصريح ينهل من النموذج المعرفي الذي يضع بنية العقل البشري وسيرورات معالجة المعلومات في صلب اهتمامه، ويهدف إلى بناء فهم داخلي عميق ومستدام.إن التشابهات الظاهرية في التنظيم والوضوح بين المقاربتين لا تعدو كونها بنية سطحية تخفي هذا الاختلاف الجوهري في البنية العميقة. فالتعليم الصريح، باستجابته العلمية لمحدوديات السلوكية (كتفتيت المعنى وإهمال التفكير العليا) عبر مفاهيم كإدارة العبء المعرفي والنمذجة والتفويض التدريجي للمسؤولية، يمثل تطوراً علمياً حقيقياً نحو مقاربة أكثر شمولية وانسجاماً مع ما نعرفه اليوم عن كيفية عمل الدماغ البشري.
بالنسبة للمنظومة التربوية المغربية، يحمل هذا التمييز آثاراً بالغة الأهمية. فبعد عقود من الإصلاحات المتتالية، من الأهداف إلى الكفايات، والتي واجهت تحديات في التنزيل، تبرز اليوم فرصة تاريخية لإرساء الممارسة التربوية على أسس علمية صلبة. إن المضي في هذا الطريق يتطلب وعياً حاداً بهذه القطيعة الإبستمولوجية، وإرادة سياسية لترجمة هذا الوعي إلى سياسات تكوينية وممارسات تأطيرية واضحة وموجهة، لتجاوز منطق استيراد النماذج وتطبيقها بشكل سطحي، نحو بناء قدرات وطنية للبحث والتطوير والتكوين، قادرة على تكييف وتنزيل الممارسات الفعالة، كالتعليم الصريح، بما يخدم هدف الجودة والإنصاف لجميع المتعلمين.
إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة
Tags
إضاءات تربوية
