مقاربة الكفايات في سياق الإصلاح التربوي المغربي - الوعد والتحدي
شهدت المنظومة التربوية المغربية، مع مطلع الألفية الجديدة، منعطفاً إصلاحياً كبيراً تمثل في التبني الرسمي لـ "المقاربة بالكفايات" كخيار استراتيجي لتحديث النظام التعليمي. وقد جاء هذا التحول، الذي أرسى دعائمه "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" الصادر عام 2000، كرد فعل مباشر على القصور الذي أظهرته المقاربات البيداغوجية السابقة، وعلى رأسها "بيداغوجيا الأهداف"، التي هيمنت على الفكر التربوي لعقود. لقد تعرضت بيداغوجيا الأهداف لانتقادات واسعة بسبب تركيزها المفرط على التلقين، وتجزئتها للمعرفة إلى أهداف سلوكية ضيقة، وإهمالها لتنمية المهارات العليا لدى المتعلم.
في هذا السياق، حملت مقاربة الكفايات وعداً ثورياً للمدرسة المغربية: تحويل بؤرة التركيز في العملية التعليمية من سؤال "ماذا يعرف المتعلم؟" إلى سؤال "ماذا يستطيع أن يفعل بما يعرفه؟". لقد كانت الغاية هي تجاوز منطق الشحن المعرفي، نحو بناء شخصية المتعلم وتكوين مواطن فاعل، مستقل، ومبدع، يمتلك القدرة على حل المشكلات المعقدة التي تواجهه في حياته اليومية، وعلى الاندماج الفعال في سوق شغل دائم التغير.
ومع ذلك، وبعد مرور ما يزيد عن عقدين على إطلاق هذا الورش الإصلاحي، تتعالى الأصوات المشككة في نجاعة هذا الاختيار وتتزايد المؤشرات على تعثره. فالتقارير والدراسات الميدانية ترسم صورة قاتمة عن واقع الممارسة التربوية، صورة تبدو فيها الفجوة هائلة بين الطموحات النظرية للمقاربة ومخرجات المنظومة على أرض الواقع. هذا الوضع يطرح إشكالية مركزية معقدة يسعى هذا التقرير إلى تفكيكها من خلال الإجابة على السؤال المحوري التالي في سياق الخصوصية المغربية:
هل يعود هذا التعثر الملحوظ إلى فشل جوهري في فلسفة المقاربة نفسها، مما يجعلها غير قابلة للتطبيق في سياقنا التربوي؟ أم أن المشكلة تكمن في كونها لم تُطبّق فعلياً وبقيت مجرد شعارات وخطابات حبيسة الوثائق الرسمية والمناهج النظرية؟ أم أن الكارثة الحقيقية تكمن في أنها عانت من سوء تنزيل كارثي على مستوى الممارسات الصفية والظروف الميدانية، مما أفرغها من محتواها وحولها إلى ممارسة شكلية مشوهة؟
للإجابة على هذا السؤال، سيتبنى هذا التقرير منهجاً تحليلياً نقدياً، مستنداً إلى الإطار النظري للمقاربة، مع التركيز بشكل حصري على التجربة المغربية لتشريح أبعاد الإشكالية وتقديم رؤية متكاملة حول أسباب التعثر وآفاق المستقبل.
الفصل الأول: الإطار النظري والفلسفي لمقاربة الكفايات
لفهم أبعاد الجدل الدائر حول نجاح أو فشل مقاربة الكفايات، لا بد أولاً من تأسيس فهم دقيق وعميق لأصولها الفلسفية ومفاهيمها المركزية، والوقوف على طبيعة القطيعة المنهجية التي أحدثتها مع المقاربات التي سبقتها.
1.1. تفكيك المفهوم: من المعرفة إلى الكفاية
إن جوهر التحول الذي أتت به المقاربة يكمن في مفهوم "الكفاية" ذاته، وهو مفهوم مركب يتجاوز المعنى التقليدي للمعرفة.
تعريف الكفاية
على الرغم من تعدد التعريفات في الأدبيات التربوية، يمكن القول إن هناك شبه إجماع على أن الكفاية هي القدرة على تعبئة وتجنيد مجموعة مندمجة من الموارد (معارف، مهارات، قدرات، مواقف، قيم) بشكل فعال ومناسب، بهدف حل فئة من الوضعيات-المشكلة التي تنتمي إلى سياق معين. فالكفاية ليست مجرد امتلاك المعرفة، بل هي "معرفة الفعل" (savoir-agir)؛ أي القدرة على توظيف ما نملكه من موارد لمواجهة تحدٍ جديد وغير مألوف. إنها لا تظهر إلا من خلال الإنجاز والأداء في سياقات واقعية وذات دلالة للمتعلم.
تمييزات مفاهيمية أساسية
لتجنب الخلط الشائع الذي غالباً ما يقع فيه الممارسون، من الضروري التمييز بين الكفاية والمفاهيم المجاورة لها:
- الكفاية (Compétence): هي المفهوم الأشمل والأكثر تركيباً. تتميز بكونها شاملة (تدمج موارد مختلفة)، ووظيفية (تهدف لحل مشكلة)، وسياقية (مرتبطة بوضعيات محددة)، وقابلة للتقويم من خلال ملاحظة الأداء في وضعيات جديدة.
- القدرة (Capacité): هي نشاط فكري أو ذهني عام ومجرد، مثل القدرة على التحليل، أو التركيب، أو المقارنة، أو النقد. القدرات عابرة للمواد الدراسية (transversale) وتنمو على المدى الطويل، وهي غير قابلة للملاحظة أو التقويم بشكل مباشر، بل يتم الاستدلال عليها من خلال تجلياتها في إنجاز مهام محددة.
- المهارة (Habilité): تشير إلى أداء متقن ومحدد، وغالباً ما يكون ذا طابع عملي أو إجرائي (مثل مهارة استخدام أداة معينة، أو تطبيق قاعدة نحوية). تعتبر المهارة تجسيداً عملياً لجزء من القدرة، وهي أكثر تحديداً من القدرة وأقل تركيباً من الكفاية.
- الأداء/الإنجاز (Performance): هو التجلي الملموس والفوري والقابل للملاحظة والقياس للكفاية في موقف معين. الأداء هو ما يقوم به المتعلم فعلياً عند مواجهة وضعية-مشكلة، وهو الذي يسمح بالحكم على درجة تملكه للكفاية.
1.2. المرجعيات المؤسِّسة: الجذور الفكرية للمقاربة
لم تظهر مقاربة الكفايات من فراغ، بل هي نتاج تقاطع وتطور تيارات فكرية ونظريات تعلم متعددة، استلهمت من كل منها مبدأ أساسياً. وهذا التعدد في المرجعيات هو ما يمنحها غناها النظري وقدرتها على تقديم رؤية متكاملة للتعلم.
النظرية البنائية (جان بياجيه): تعتبر هذه النظرية أن المعرفة لا تُنقل جاهزة إلى المتعلم، بل يبنيها بنفسه بناءً ذاتياً ونشطاً من خلال تفاعله مع محيطه وخبراته. يتقاطع هذا المبدأ بشكل مباشر مع فلسفة مقاربة الكفايات التي تجعل المتعلم محور العملية، وتؤكد على التعلم الذاتي من خلال وضعه في "وضعيات-مشكلة" تدفعه إلى بناء حلول بنفسه، مما يخلخل بنياته المعرفية السابقة ويؤدي إلى تعلم حقيقي.
النظرية السوسيو-بنائية (فيجوتسكي): تضيف هذه النظرية بعداً اجتماعياً للبنائية، حيث تشدد على أن التعلم يتم ويتطور بشكل أفضل من خلال التفاعل الاجتماعي مع الأقران والراشدين (المعلم). هذا يبرر اعتماد مقاربة الكفايات على بيداغوجيات نشطة مثل التعلم التعاوني، والعمل بالمجموعات، وبيداغوجيا المشروع، حيث يصبح التفاعل والنقاش والحوار أدوات أساسية لبناء المعرفة المشتركة.
النظرية المعرفية: نقلت هذه النظرية الاهتمام من دراسة السلوك الخارجي القابل للملاحظة (كما في السلوكية) إلى دراسة العمليات الذهنية الداخلية التي تحدث في عقل المتعلم (كالانتباه، والإدراك، والفهم، والتذكر، ومعالجة المعلومات). وهذا ينسجم تماماً مع هدف مقاربة الكفايات المتمثل في تنمية قدرات التفكير العليا لدى المتعلم، وتعليمه "كيف يتعلم"، وتزويده باستراتيجيات معرفية تمكنه من التعامل مع المعلومات بفعالية.
نظرية الذكاءات المتعددة (هوارد غاردنر): من خلال طرحها لفكرة وجود أنواع متعددة من الذكاء (لغوي، منطقي-رياضي، مكاني، موسيقي، جسدي-حركي، اجتماعي، ذاتي)، قدمت هذه النظرية سنداً قوياً للبيداغوجيا الفارقية، وهي إحدى الركائز الأساسية لتطبيق مقاربة الكفايات. فالبيداغوجيا الفارقية تدعو إلى تنويع طرائق التدريس والأنشطة والوسائل وأساليب التقويم، لمراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين وأنماط تعلمهم المختلفة، وإتاحة الفرصة لكل متعلم للنجاح والتميز وفقاً لنقاط قوته.
النظرية الجشطالتية: يؤكد هذا التيار على أن الإدراك البشري ينطلق من فهم الكل قبل الانتقال إلى الأجزاء، وأن حل المشكلات يحدث عبر "الاستبصار"، أي إعادة تنظيم عناصر الموقف بشكل مفاجئ للوصول إلى حل. هذا المبدأ يجد صداه في مفهوم "الوضعية الإدماجية" في مقاربة الكفايات، والتي تتطلب من المتعلم نظرة شمولية للمشكلة وتعبئة مندمجة لموارده المختلفة، بدلاً من استدعاء معارف مجزأة ومنفصلة عن بعضها البعض.
1.3. القطيعة المنهجية: مقارنة نقدية مع بيداغوجيا الأهداف
إن الانتقال من بيداغوجيا الأهداف إلى مقاربة الكفايات لم يكن مجرد استبدال لمصطلح بآخر، بل هو تحول عميق في النموذج الفكري الذي يحكم العملية التربوية برمتها. فبيداغوجيا الأهداف، التي استمدت أسسها من النظرية السلوكية، كانت تقوم على منطق تجزيئي وآلي. فقد عملت على تفتيت المحتويات الدراسية إلى عدد هائل من الأهداف الإجرائية الدقيقة، التي تصف سلوكاً قابلاً للملاحظة والقياس، وفق آلية "مثير-استجابة". ورغم مساهمتها في عقلنة الفعل التربوي، إلا أنها أدت في نهاية المطاف إلى تشتيت المعنى، وإغراق المعلم والمتعلم في تفاصيل لا نهائية، وإهمال العمليات العقلية العليا والقدرة على توظيف المعرفة في سياقات جديدة.
لهذا السبب، جاءت مقاربة الكفايات كـ"حركة تصحيحية" تهدف إلى تجاوز هذه النقائص من خلال مبادئ معاكسة تماماً:
- الإدماج (Intégration): بدلاً من تجزئة المعارف، تسعى إلى ربطها ودمجها في كليات ذات معنى.
- الدلالة (Signification): تسعى لإعطاء معنى للتعلمات من خلال ربطها باهتمامات المتعلم وواقعه.
- الوظيفية (Fonctionnalité): تؤكد على ضرورة أن تكون التعلمات قابلة للاستعمال والتوظيف في حل مشكلات حقيقية.
- التمحور حول المتعلم (Centration sur l'apprenant): تجعل المتعلم فاعلاً أساسياً ومسؤولاً عن بناء تعلماته.
إن فهم حجم هذا التحول الجذري ضروري لإدراك لماذا كان تطبيق مقاربة الكفايات في المغرب مهمة بالغة الصعوبة. فالأمر لم يكن يتطلب تعديلاً بسيطاً في الممارسات، بل ثورة حقيقية في أدوار كل من المعلم والمتعلم، وفي طبيعة المناهج، وفي فلسفة التقويم. ويوضح الجدول التالي أبعاد هذه القطيعة المنهجية:
جدول 1: مقارنة بين بيداغوجيا الأهداف ومقاربة الكفايات
الفصل الثاني: التجربة المغربية: طموح الميثاق وصدمة الواقع
بعد استعراض الإطار النظري الطموح لمقاربة الكفايات، ينتقل التحليل إلى أرض الواقع لدراسة كيفية تنزيل هذه المقاربة في المنظومة التربوية المغربية، وهي قصة تكشف عن آمال كبيرة اصطدمت بعقبات بنيوية متجذرة.
2.1. الإطار الرسمي: رؤية الميثاق الوطني للمدرسة الجديدة
شكل "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، الصادر عام 2000، الوثيقة المرجعية التي أرست بشكل رسمي لتبني مقاربة الكفايات في المغرب. لقد حمل الميثاق رؤية إصلاحية شاملة تهدف إلى بناء "مدرسة جديدة"، وصفها بأنها "مفعمة بالحياة" و"منفتحة على محيطها" الاقتصادي والاجتماعي. كانت الغاية الكبرى هي تجاوز التعليم التقليدي القائم على التلقي السلبي، وتزويد المجتمع بأفراد يمتلكون "الكفايات" اللازمة للاندماج في الحياة العملية، والمساهمة في التنمية، ومواصلة التعلم مدى الحياة. لقد كان الخطاب الرسمي طموحاً، يركز على جعل المتعلم في قلب الاهتمام، وتنمية قدراته، وربط التعلمات بواقعه من خلال نهج تربوي نشيط يعتمد التعلم الذاتي والحوار والمشاركة.
2.2. الواقع الميداني: أسباب تعثر بيداغوجيا الكفايات في المدرسة المغربية
بعد مرور أكثر من عقدين على إطلاق هذا المشروع الإصلاحي، تشير العديد من الدراسات والتحليلات النقدية إلى أن التطبيق الفعلي للمقاربة قد تعثر بشكل كبير، وأن الفجوة بين الخطاب الرسمي والممارسة الميدانية لا تزال واسعة. لقد واجه تنزيل المقاربة في المدارس المغربية "صدمة الواقع" التي تجلت في مجموعة من المعوقات البنيوية الحادة، والتي رصدتها الأبحاث الميدانية بشكل متكرر. يمكن تلخيص أبرز هذه المعوقات فيما يلي :
- الاكتظاظ: حيث يصبح من شبه المستحيل تطبيق بيداغوجيات نشطة في فصول دراسية يتجاوز عدد التلاميذ فيها 40 أو 50 تلميذاً. هذا الوضع يجبر المعلمين على اللجوء إلى الطرق الإلقائية التقليدية، كما يعيق تخصيص قاعات لحصص الدعم التربوي الضرورية، مما يزيد من نسبة الهدر المدرسي.
- ضعف الوسائل والمعينات الديداكتيكية: تعتبر هذه الوسائل دعامة أساسية لتطبيق المقاربة، لكن العديد من المؤسسات التعليمية العمومية تفتقر حتى للمستلزمات الأساسية مثل آلات الطباعة أو الحواسيب وأجهزة العرض، مما يجعل الحديث عن أنشطة عملية ومشاريع نوعاً من الترف النظري.
- تدني المستوى التعليمي للمتعلمين وإشكالية الكتب المدرسية: اعتاد المتعلمون على دور المتلقي السلبي، وتحويلهم إلى باحثين نشطين يمثل تحدياً كبيراً. وتزيد الكتب المدرسية من هذه الصعوبة، حيث يغلب عليها الطابع الكمي على الكيفي، وتخاطب الذاكرة أكثر من الفهم، كما تعاني من عدم توحيد المصطلحات واختلاف المضامين، مما يخل بمبدأ تكافؤ الفرص.
- غياب التكوين المستمر والفعال للأساتذة: يؤثر غياب التكوين المستمر بشكل سلبي على مردودية الأساتذة وقدرتهم على مواكبة المستجدات البيداغوجية. وقد تفاقمت المشكلة مع نظام "الأساتذة أطر الأكاديميات" (التعاقد)، حيث تم تقليص مدة التكوين الأساسي بشكل كبير، مما ينتج عنه أساتذة غير مؤهلين بشكل كافٍ لتنزيل مقاربة معقدة كالكفايات.
- سوء التخطيط والتدبير والتقويم: يواجه الأستاذ صعوبات جمة على كافة المستويات:على مستوى التخطيط: يجد الأستاذ نفسه حائراً في كيفية بناء جذاذة وفق منطق الكفايات، فيلجأ غالباً إلى التخطيط بمنطق الأهداف الأسهل والأوضح.
- على مستوى التدبير: يمثل ضيق الغلاف الزمني وكثافة البرامج عائقاً كبيراً، حيث يضطر الأستاذ إلى تجاوز مراحل مهمة كالتقويم والتطبيق من أجل "إتمام المقرر".
- على مستوى التقويم: يظل التقويم هو المعضلة الكبرى، فالتقويم الحقيقي للكفايات يتطلب أدوات ووضعيات مركبة وإمكانيات لا تتوفر في غالبية المؤسسات، مما يؤدي إلى هيمنة التقويم الإشهادي التقليدي الذي يركز على قياس المعارف المسترجعة، ويوجه جهود المنظومة بأكملها نحو الحفظ بدلاً من الفهم والتوظيف.
إن هذا الواقع يكشف أن الإشكالية في المغرب ليست بيداغوجية فحسب، بل هي في جوهرها سياسية واقتصادية، مرتبطة بمدى توفر الإرادة لتخصيص الموارد الهائلة التي يتطلبها نجاح إصلاح بهذا الحجم.
الفصل الثالث: تشريح "الفشل" في السياق المغربي: أزمة نموذج أم أزمة تطبيق؟
للإجابة بشكل مباشر وعميق على السؤال المركزي لهذا البحث، يقوم هذا الفصل بتشريح منهجي لمكونات العملية التعليمية في المغرب، بهدف تحديد ما إذا كان التعثر ناجماً عن عيب في النموذج النظري للمقاربة، أم عن أزمة حادة في تطبيقها على أرض الواقع.
3.1. الحلقة الأضعف: تكوين الفاعلين التربويين
تعتبر مقاربة الكفايات مقاربة طموحة تفرض على المعلم أدواراً جديدة ومركبة، فهو لم يعد مجرد ملقن للمعرفة، بل أصبح مطالباً بأن يكون مُنشّطاً، ومُوجّهاً، ومُيسّراً لعملية التعلم، ومصمماً لوضعيات-مشكلة، ومقوّماً للكفايات. هذا التحول الجذري في الأدوار يتطلب معلماً ذا كفاءة مهنية عالية.
لكن الواقع الميداني المغربي يكشف عن فجوة هائلة بين هذه المتطلبات وبين حقيقة تكوين الأساتذة. فغياب التكوين المستمر الفعال، وتفاقم الأزمة مع نظام التعاقد الذي قلص من مدة التكوين الأساسي، أدى إلى دخول أفواج من الأساتذة إلى الميدان دون تأهيل كافٍ لاستيعاب فلسفة المقاربة وأدواتها الإجرائية المعقدة. هذا الوضع يترك المعلم وحيداً في مواجهة تحديات التطبيق، مما يدفعه في نهاية المطاف إلى العودة للممارسات التقليدية التي يتقنها ويشعر بالأمان في تطبيقها. وهكذا، تصبح الحلقة التي من المفترض أن تكون الأقوى في سلسلة الإصلاح، وهي الأستاذ، هي الحلقة الأضعف التي تسببت في كسر السلسلة بأكملها.
3.2. الكتاب المدرسي: وعاء للمحتوى أم أداة لبناء الكفاية؟
في ظل مقاربة الكفايات، من المفترض أن يتغير دور الكتاب المدرسي بشكل جذري. فبدلاً من أن يكون مجرد وعاء للمحتويات المعرفية التي يجب حفظها، ينبغي أن يتحول إلى أداة عمل مصممة لمساعدة المتعلم على بناء كفاياته.
لكن تحليل الكتب المدرسية المعتمدة في المغرب يكشف عن تناقض جوهري. فالعديد من هذه الكتب، على الرغم من تبنيها لمصطلحات المقاربة في مقدماتها، لا تزال في جوهرها مصممة وفق منطق المحتويات. يغلب عليها "المنحى الكمي على الكيفي"، وتخاطب الذاكرة أكثر من مخاطبتها للفهم والتحليل، وتقدم المعارف بشكل مجزأ ومفصول عن سياقاتها الوظيفية. وبهذا، يصبح الكتاب المدرسي، الذي هو الأداة الرئيسية للأستاذ والمتعلم، عائقاً أمام تطبيق المقاربة بدلاً من أن يكون داعماً لها.
3.3. معضلة التقويم: هيمنة ثقافة "النقطة"
يمثل التقويم حجر الزاوية في نجاح أو فشل مقاربة الكفايات، لأنه هو الآلية التي تسمح بالحكم على مدى تحقق الهدف الأسمى للمقاربة: تملك المتعلم للكفاية. فالتقويم في هذا الإطار ليس مجرد قياس للمعارف، بل هو عملية معقدة تهدف إلى التحقق من قدرة المتعلم على تعبئة موارده لحل وضعية جديدة ومركبة. وهذا يتطلب اعتماد أدوات تقويم نوعية، مثل شبكات التقويم القائمة على معايير واضحة ومؤشرات سلوكية قابلة للملاحظة.
إلا أن الواقع الميداني في المغرب يظهر أن الممارسات التقويمية ظلت حبيسة "ثقافة النقطة" والمنطق التقليدي. فالتقويم لا يزال يستهدف بشكل أساسي الجانب المعرفي ومدى قدرة التلميذ على استرجاع وحفظ المعلومات. وتُجمع الدراسات على أن صعوبة التحكم في تقنيات التقويم الجديدة تمثل "أبرز صعوبة تحول دون التطبيق الفعلي للمقاربة". عندما يظل الامتحان الوطني الإشهادي، الذي يحدد مصير المتعلم، قائماً على أسئلة تقيس الحفظ، فمن الطبيعي أن تتجه كل جهود المنظومة نحو هذا الهدف، وتُهمل الغاية الحقيقية للمقاربة.
3.4. العوائق البنيوية الصامتة: ما لا يقوله الخطاب الرسمي
إلى جانب العوائق المتعلقة بالفاعلين والمناهج والتقويم، هناك مجموعة من العوائق البنيوية "الصامتة" التي تعمل في الخفاء لتقويض أي محاولة جادة لتطبيق المقاربة في المدرسة المغربية:الاكتظاظ: إن مطالبة أستاذ بتطبيق البيداغوجيا الفارقية في قسم يضم 40 أو 50 تلميذاً هو طلب غير واقعي. فالاكتظاظ يفرض عليه اللجوء إلى الطرق الإلقائية التقليدية كحل وحيد لإدارة الفصل.
ضغط الزمن وكثافة البرامج: إن كثافة المناهج الدراسية وضيق الغلاف الزمني المخصص لها يضعان الأستاذ تحت ضغط هائل لـ"إنهاء المقرر". هذا السباق ضد الزمن لا يترك أي مجال لتطبيق الأنشطة التفاعلية التي تتطلب وقتاً أطول.
نقص الموارد والتجهيزات: إن تطبيق أنشطة عملية أو مشاريع بحثية يتطلب حداً أدنى من الموارد والتجهيزات. انعدام هذه الوسائل في العديد من المؤسسات التعليمية المغربية يجعل من الحديث عن بيداغوجيات نشطة نوعاً من الترف النظري البعيد عن الواقع.
3.5. خلاصة نقدية: الإجابة على السؤال المركزي
بناءً على هذا التشريح المفصل للتجربة المغربية، يمكن الآن تقديم إجابة أكثر دقة وتركيباً للسؤال المركزي. إن ما حدث لمقاربة الكفايات في المغرب ليس "فشلاً" للمقاربة كنظرية، فالنظرية بحد ذاتها لم تُمنح فرصة حقيقية لتُختبر في ظروف مناسبة. كما أنه ليس "عدم تطبيق" بالمطلق، لأن الخطابات الرسمية والوثائق والمناهج قد تغيرت بالفعل لتبني لغة ومفاهيم المقاربة.
الوصف الأدق لما حدث هو "سوء تنزيل ممنهج" أو "تطبيق شكلي وسطحي". لقد تم تغيير الواجهة الخارجية للنظام التعليمي (المصطلحات، عناوين المناهج، الخطاب الرسمي للميثاق) دون إحداث تغيير حقيقي وعميق في جوهره وآليات عمله (الممارسات الصفية، ثقافة التقويم، ظروف العمل المادية، تكوين الفاعلين). لقد طُلب من المعلمين تطبيق مقاربة جديدة بنفس الأدوات والعقليات والظروف القديمة، وهي معادلة نتيجتها الفشل الحتمي.
هذا الوضع خلق حالة يمكن وصفها بـ "الفصام البيداغوجي". فالأستاذ المغربي يجد نفسه ممزقاً بين خطاب رسمي يطالبه بالابتكار والتركيز على تنمية الكفايات، وبين واقع ميداني قاسٍ (اكتظاظ، ضغط الوقت، نقص الموارد، امتحانات وطنية تقليدية) يدفعه دفعاً نحو التمسك بالممارسات التلقينية الآمنة والمجربة. هذا التناقض الجوهري بين الأهداف المعلنة للنظام وآليات عمله الفعلية هو الذي يفسر لماذا، بعد مرور عقدين من الزمن على "الإصلاح"، لا تزال الممارسات التقليدية هي المهيمنة في فصولنا الدراسية، ولماذا بقيت مقاربة الكفايات في كثير من الأحيان مجرد حبر على ورق.
الفصل الرابع: آفاق المستقبل: نحو إصلاح الإصلاح في المغرب
إن تشخيص أسباب التعثر، على أهميته، لا يكفي وحده. لا بد من الانتقال من مرحلة النقد إلى مرحلة اقتراح الحلول وفتح آفاق جديدة. فإذا كان "سوء التنزيل" هو التشخيص، فإن "إصلاح الإصلاح" هو العلاج الممكن للمنظومة التربوية المغربية.
4.1. مداخل لتجويد التطبيق: توصيات عملية
إن تجاوز العقبات التي تم رصدها في السياق المغربي يتطلب تدخلاً منسقاً على عدة مستويات:
- إعادة التفكير الجذري في تكوين الأساتذة: يجب أن يكون تكوين المعلمين على رأس الأولويات. لا بد من الانتقال من الدورات التكوينية القصيرة والنظرية إلى برامج تكوين عملية ومستمرة، تركز على الممارسة الفعلية داخل الفصول الدراسية. يجب أن يتم تدريب الأساتذة بشكل مكثف على المهارات الإجرائية الأساسية: كيفية بناء وتدبير وضعيات-مشكلة، وكيفية تصميم وتطبيق أدوات التقويم القائمة على المعايير والمؤشرات، وكيفية تفعيل البيداغوجيا الفارقية في ظل الظروف الصعبة.
- تطوير المناهج والكتب المدرسية: من الضروري إجراء مراجعة شاملة للمناهج الدراسية بهدف تخفيف كثافتها والتركيز على الكفايات الأساسية والممتدة. كما يجب إعادة تصميم الكتب المدرسية لتصبح أدوات حقيقية لبناء الكفايات، غنية بالأنشطة العملية والمشاريع والوضعيات التي تحفز على التفكير النقدي وحل المشكلات، بدلاً من كونها مجرد مستودعات للمعلومات.
- ثورة في منظومة التقويم: لا يمكن لأي إصلاح أن ينجح ما لم تتغير فلسفة التقويم. يجب العمل على تطوير بنوك وطنية لوضعيات تقويمية نموذجية وموحدة، وتدريب الأساتذة والمفتشين على كيفية بناء وتصحيح هذا النوع من الاختبارات. والأهم من ذلك، هو ضرورة المراجعة التدريجية لنظام الامتحانات الإشهادية الوطنية لتصبح أكثر انسجاماً مع منطق الكفايات.
4.2. ما بعد الكفايات؟ بيداغوجيا الإدماج كآلية إجرائية
في خضم الصعوبات التي واجهها المعلمون في المغرب في فهم وترجمة مفهوم "الكفاية" المجرد إلى ممارسات صفية ملموسة، برز مدخل بيداغوجي يمكن أن يقدم حلاً عملياً لهذه المعضلة، وهو "بيداغوجيا الإدماج".
لا تُعتبر بيداغوجيا الإدماج بديلاً لمقاربة الكفايات أو نقيضاً لها، بل هي "إطار منهجي لأجرأة المقاربة بالكفايات". فإذا كانت الكفاية هي الهدف النهائي، فإن الإدماج هو الطريقة العملية والمنهجية للوصول إلى هذا الهدف. تقوم هذه البيداغوجيا على فكرة تخصيص فترات منتظمة في البرنامج الدراسي لأنشطة تسمى "وضعيات الإدماج"، وهي وضعيات مركبة تتطلب من المتعلم استدعاء وتوظيف مكتسباته السابقة من عدة دروس لحل مشكلة واحدة. يمكن لهذا المدخل أن يقدم خارطة طريق واضحة للأساتذة، ويساعدهم على تجاوز الشعور بالضياع أمام عمومية مفهوم الكفاية.
4.3. توصيات موجهة
إن تحقيق "إصلاح الإصلاح" في المغرب يتطلب تضافر جهود جميع الفاعلين في المنظومة التربوية.
- لصناع السياسات التربوية: إن الدرس الأكبر المستفاد من تجربة العقدين الماضيين هو ضرورة تحقيق المواءمة بين طموحات الميثاق الوطني والموارد المخصصة له. لا يمكن إطلاق إصلاح بيداغوجي جذري دون أن تسبقه وتواكبه استثمارات حقيقية ومستدامة في البنية التحتية للمؤسسات التعليمية (تخفيف الاكتظاظ، توفير التجهيزات)، وفي تكوين وتأهيل وتحفيز الأطر التربوية.
- لمراكز تكوين الأساتذة والمفتشين: تقع على عاتق هذه المراكز مسؤولية تاريخية في مراجعة برامجها بشكل شامل، لتكون متوافقة تماماً مع متطلبات المقاربات البيداغوجية الحديثة. يجب أن يتخرج الأستاذ من مركز التكوين وهو يمتلك الكفاءة العملية لتطبيق هذه المقاربات في واقعه الصفي.
- للباحثين والأكاديميين: يجب توجيه جهود البحث التربوي نحو دراسات ميدانية أكثر عمقاً، ترصد الممارسات الفعلية داخل الفصول الدراسية المغربية، وتحلل أسباب النجاح والفشل، وتقدم حلولاً واقعية قابلة للتطبيق، بدلاً من الاكتفاء بالنقد النظري العام.
وفي الختام:
نعود إلى السؤال المركزي الذي انطلقنا منه: هل فشلت مقاربة الكفايات في المنظومة التربوية المغربية؟ إن الإجابة، بعد هذا المسار التحليلي، ليست بسيطة أو قاطعة. فالمقاربة بالكفايات، كنظرية تربوية طموحة، لم تفشل بحد ذاتها، بل يمكن القول إنها لم تُمنح قط فرصة حقيقية وعادلة لتُطبّق في ظروف تسمح بنجاحها. ما فشل بشكل ذريع وممنهج هو نموذج الإصلاح الفوقي الذي تم من خلاله استيراد هذه المقاربة، وهو نموذج تجاهل بشكل شبه كامل الواقع الميداني، والخصوصيات المحلية، والمتطلبات الهائلة التي يستلزمها إحداث تغيير بهذا الحجم.
لذلك، فإن التشخيص الأدق للحالة هو أننا أمام "سوء تنزيل ممنهج"، ناتج عن فجوة بنيوية هائلة بين خطاب الميثاق والممارسة، وبين الطموحات النظرية والإمكانيات المادية والبشرية المتاحة. لقد أدى هذا الوضع إلى "تطبيق شكلي" أفرغ المقاربة من جوهرها وحولها إلى مجرد طقوس إدارية ومصطلحات جديدة تُستخدم لوصف ممارسات قديمة، مما خلق نظاماً تعليمياً يعاني من فصام بيداغوجي وتناقض داخلي عميق.
وهذا التشخيص المرير ليس مجرد تشريح لجثة إصلاح قديم، بل هو جرس إنذار يدوي بقوة اليوم، ويلقي بظلاله الكثيفة على مستقبل الإصلاحات الحالية. فاليوم، ونحن على أعتاب مرحلة جديدة ترفع شعارات واعدة مثل "نموذج طارل (TaRL)" كآلية علاجية و"التعليم الصريح" كمنهجية وقائية، يبرز نفس الشبح ليطرح السؤال المقلق: هل ستنجو هذه المقاربات الجديدة من المصير الذي لاقته سابقتها؟
إن الخوف كل الخوف ليس من المقاربات في حد ذاتها، فلكل منها وجاهته النظرية. الخوف الحقيقي هو من الذاكرة المؤسساتية العنيدة، ومن تكرار نفس الأخطاء بنفس الآليات. الخوف من أن يتم التعامل مع هذه النماذج كحلول سحرية أو وصفات جاهزة، تُلقى على عاتق أستاذ لم يتلق التكوين الكافي الذي ينطلق على الحاجة الفعلية والميدانية، في قسم يئن تحت وطأة الاكتظاظ. الخطر الأكبر هو أن يتحول الدواء إلى مجرد ملصق جديد على قارورة قديمة، وأن يتم إفراغ هذه المقاربات الإجرائية الدقيقة من روحها لتتحول إلى مجرد خطوات شكلية تملأ بها التقارير، دون أن تمس جوهر العملية التعليمية-التعلمية.
وعليه، فإن الدعوة اليوم لا ينبغي أن تكون للبحث عن "مقاربة سحرية" جديدة تحل محل القديمة. بل يجب أن تتوجه الجهود نحو "إصلاح الإصلاح" ذاته، من خلال معالجة شجاعة وواقعية للعوائق البنيوية التي تم تشخيصها. إن النجاح في الإصلاح التربوي المغربي ليس حدثاً يتم في لحظة، بل هو سيرورة طويلة ومعقدة من التطوير المستمر، والنقد الذاتي البناء، والمواءمة الواقعية بين الأهداف المنشودة والوسائل المتاحة. وهذا يتطلب، قبل كل شيء، إرادة سياسية حقيقية تترجم الشعارات إلى ميزانيات، والنوايا إلى قرارات، واستثماراً طويل الأمد في أغلى رأسمال يملكه الوطن: الإنسان، معلماً كان أم متعلماً.
فالإصلاح الحقيقي لا يكمن في تغيير الأسماء على الورق، بل في تغيير واقع الممارسة على الأرض، وهو الدرس الذي قدمته لنا تجربة الكفايات بقسوة، ونتمنى ألا نضطر لتعلمه مرة أخرى
إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة
Tags
إضاءات تربوية
