يُمثل المسار الذي قطعه قطاع التربية والتكوين في المغرب على مدى الخمسة وعشرين عامًا الفاصلة بين 1999 و2024 تحولًا طويلًا ومضطربًا في كثير من الأحيان، حيث انتقلت السياسة التعليمية من مقاربة إعلانية قائمة على الرؤى إلى نظام موحد ومقنن قانونيًا. لا يُعد هذا التطور، الذي بلغ ذروته في النظام الأساسي لعام 2024، مجرد تعديل تقني، بل هو إعادة تفاوض جوهرية حول الهوية المهنية والمسار الوظيفي للأستاذ المغربي، تشكلت بشكل مباشر بفعل التحدي المستمر المتمثل في مواءمة التكوين الأساس مع التقييم أثناء الممارسة.
يتتبع هذا التقرير هذا المسار عبر أربع مراحل متميزة ومترابطة: الانطلاقة المثالية مع الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999)؛ التدخلات البراغماتية والمُحدثة للقطيعة مع البرنامج الاستعجالي (2009-2012)؛ إعادة التوجيه الاستراتيجي نحو المهننة في الرؤية الاستراتيجية (2015-2030)؛ وأخيرًا، التوحيد التشريعي وحل الإشكاليات في النظام الأساسي لعام 2024.
إن فعالية إطار التقييم الجديد لعام 2024 ستعتمد بشكل حاسم على قدرته على سد الفجوة التاريخية بين الكفايات المكتسبة خلال التكوين الأساس وتحديات التقييم المهني، وهي فجوة شكلت مصدر احتكاك بنيوي لأكثر من عقدين. إن تاريخ الإصلاحات التعليمية في المغرب ليس مجرد تقدم خطي، بل هو دورة تفاعلية من الأزمات والتدخلات وإعادة بناء الاستراتيجيات. فاللغة المستخدمة في تقديم كل إصلاح تكشف عن هذا النمط؛ فقد جاء البرنامج الاستعجالي ليمنح "نفسًا جديدًا" للإصلاح و"ينقذ" الميثاق من بطء تنزيله. وبالمثل، كانت الرؤية الاستراتيجية استجابة "لمحدودية الإصلاحات المتعاقبة"، بينما كان النظام الأساسي لعام 2024 نتيجة مباشرة للاحتجاجات الواسعة ضد النظام السابق. هذا التسلسل لا يعكس مراحل مخطط لها مسبقًا، بل دورة متكررة من الاستجابة للأعطال، مما يوحي بوجود انفصال مستمر بين تصميم السياسات وتنفيذها على أرض الواقع. وقد أدى هذا الوضع إلى ما يمكن تسميته "إرهاق الإصلاح" وثقافة من التشكك لدى الفاعلين التربويين. لذلك، يجب تحليل النظام الأساسي لعام 2024 ليس فقط كنص قانوني، بل كمحاولة لإرساء "عقد اجتماعي" جديد وأكثر استقرارًا مع مهنة التدريس لكسر هذه الدورة.
1. الرؤية المؤسِّسة: الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999)
لكن على الرغم من غنى الميثاق بالمبادئ، إلا أنه اتسم بغموض في آليات التنفيذ. لقد أحدث تحولًا فلسفيًا دون أن يوفر الأدوات الإجرائية اللازمة لتطبيقه، خاصة فيما يتعلق بتقييم أداء الأساتذة. فبينما أرسى الميثاق "لماذا" الإصلاح (الجودة، الكفايات)، فإنه لم يوضح "كيف" سيتم تقييم الأداء المهني للأستاذ. لم تتضمن الوثائق التأسيسية للميثاق أي شبكات تقييم أو معايير أداء واضحة، بل تركت ذلك لمرحلة التنفيذ. في ظل هذا الفراغ، استمر النظام القديم القائم على التفتيش الإداري، الذي يركز على الامتثال الإداري مثل احترام استعمال الزمن والانضباط. وعليه، نشأ انفصال بنيوي منذ البداية: طُلب من المنظومة تطبيق بيداغوجيا جديدة (المقاربة بالكفايات) بينما استمر تقييمها بأدوات قديمة (التفتيش الإداري). هذا الغموض التأسيسي مهّد الطريق للصراعات المستقبلية والحاجة إلى إصلاحات لاحقة حاولت خلق الأدوات التنفيذية التي افتقر إليها الميثاق.
2. محاولة التسريع عن طريق البرنامج الاستعجالي (2009-2012)
المشروع 15: "تعزيز كفاءات الأطر التربوية": هدف إلى مراجعة شروط الولوج لمراكز التكوين، وتوحيدها في إطار المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين (CRMEF)، وتطوير برامج التكوين المستمر.
المشروع 16: "تعزيز آليات التأطير والتفتيش والتقييم": سعى إلى ربط الفعالية بالتحفيز، وملاءمة نظام التقييم، وإعادة تحديد أدوار هيئة التفتيش.
المشروع 17: "ترشيد الموارد البشرية": أدخل مفاهيم جديدة مثل التدبير اللاممركز، والأستاذ متعدد التخصصات، والأستاذ المتنقل.
لقد سعى البرنامج الاستعجالي إلى تحقيق هدفين متناقضين في آن واحد: مهننة الفعل التربوي من جهة، وهشاشة الوضع الوظيفي من جهة أخرى. ففي الوقت الذي أنشأ فيه المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين بهدف توحيد التكوين الأساس ورفع جودته، وهو توجه نحو المهننة، أقر نظام التوظيف بالتعاقد الذي يخلق بطبيعته حالة من عدم الاستقرار الوظيفي ويفصل هيئة التدريس إلى فئتين. هذا التناقض أصبح جوهر الصراع في قطاع التعليم للعقد التالي، حيث كان الأستاذ يُكوَّن كمهني محترف في المراكز الجهوية، لكنه يُوظَّف كعون مؤقت. وأصبح تقييمه مرتبطًا بشكل أساسي بتجديد العقدة وليس بالتطور الوظيفي طويل الأمد، مما خلق نظامًا ثنائيًا يستحيل معه بناء منظومة تقييم موحدة ترتكز على التطوير المهني. هذا التناقض الداخلي هو الذي غذى الاحتجاجات التي أدت في نهاية المطاف إلى إلغاء نظام التعاقد وإصدار النظام الأساسي الموحد لعام 2024.
3. البحث عن الجودة والإنصاف من خلال الرؤية الاستراتيجية (2015-2030)
مع ذلك، كانت الرؤية الاستراتيجية بمثابة "رؤية بدون آلية تنفيذ". لقد قدمت الإطار الفكري والاستراتيجي الذي سيشكل لاحقًا أساس النظام الأساسي لعام 2024، لكنها افتقرت إلى القوة القانونية والسياسية لفرض تطبيقه الفوري. فبينما كانت الرؤية تدعو إلى هيئة تدريس موحدة وممهننة، استمر الواقع الإداري في تكريس وتوسيع نظام التوظيف بالتعاقد، الذي كان يتناقض جوهريًا مع روح الرؤية. هذا التباين بين الخطاب الاستراتيجي الرسمي (الرؤية) والممارسة الإدارية الفعلية (التعاقد) خلق فجوة عميقة. وهكذا، عملت الرؤية كـ"ضمير" للمنظومة، حيث وفرت المبررات والإطار الذي استندت إليه لاحقًا مطالب النقابات التعليمية، والتي توجت بنظام 2024. إن الفترة الفاصلة بين إطلاق الرؤية (2015) وصدور النظام الأساسي (2024) تمثل عقدًا من التناقض البنيوي والتوتر الاجتماعي.
4. العقد الاجتماعي الجديد: النظام الأساسي لعام 2024 (مرسوم رقم 2.24.140)
هيكلة جديدة: تم تنظيم المرسوم في أبواب جديدة، من بينها باب رابع مخصص لـ"الترقية والتقييم" وباب سابع مبتكر حول "التحفيز المهني" ، مما يعكس توجهًا جديدًا نحو ربط الأداء بالمسار المهني والمكافآت.
عناصر التقييم: نص النظام الأساسي على أن تقييم الأداء المهني السنوي يتمحور حول أربعة عناصر أساسية:
1) إنجاز المهام المحددة،
2) جودة الممارسات المهنية (بما فيها استثمار التكوين المستمر)،
3) الالتزام بالضوابط المهنية،
4) الانخراط في تنزيل مشروع المؤسسة المندمج.
التقييم الذاتي: استحدث النظام الجديد مفهوم "استمارات التقييم الذاتي" الاختيارية، وهي خطوة نحو إرساء ممارسة أكثر تبصرًا وتشاركية.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه تطبيق نظام التقييم الجديد ليس تشريعيًا بل ثقافي. فالقانون يعيد تعريف دور المفتش ليصبح أكثر دعمًا وتوجيهًا، لكن عقودًا من الممارسة رسخت دوره كمراقب ومُنقِّط لأغراض الترقية. يتطلب الانتقال من ثقافة المراقبة إلى ثقافة التطوير إعادة تأهيل شاملة لهيئة التفتيش ومديري المؤسسات لتدريبهم على كيفية إدارة حوارات الأداء، وتقديم تغذية راجعة بناءة، واستخدام شبكات التقييم الجديدة ليس فقط للتنقيط، بل لتحديد الاحتياجات في مجال التكوين المستمر. فبدون هذا التحول الثقافي والعملي، هناك خطر حقيقي من أن تُستخدم الأدوات الجديدة بنفس العقلية القديمة، مما يقوض الهدف التنموي للقانون.
شكل إحداث المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين (CRMEF) حجر الزاوية في البرنامج الاستعجالي، بهدف توحيد ومهننة التكوين الأساس للأساتذة. وقد حلت هذه المراكز محل نظام مجزأ، وأرست نموذج تكوين يقوم على التناوب بين النظري والتطبيقي.
في غياب إطار مرجعي وطني موحد للكفايات المهنية، والذي دعت إليه وثائق مرجعية عديدة مثل القانون الإطار 51.17، فإن مناهج التكوين في المراكز الجهوية، وخاصة مجزوءات مثل "تحليل الممارسات المهنية" والديداكتيك، قد عملت كإطار مرجعي
فعلي للكفايات. لم تكن هذه المراكز مجرد فضاءات للتكوين، بل كانت الحاضنات والموزعات الرئيسية للكفايات المهنية الحديثة التي بدأ نظام التقييم الأوسع في الاعتراف بها رسميًا فقط مع قانون 2024. وعليه، فإن النظام الجديد، بإدراجه معايير تتماشى مع هذه الكفايات، يقوم فعليًا باللحاق بنموذج الكفايات الذي كانت تروج له المراكز الجهوية وتثبيته قانونيًا. لضمان نجاح تطبيق نظام التقييم الجديد، يجب أن تكون شبكات التقييم وقراراتها الوزارية متوائمة بشكل صريح ومتسق مع أطر الكفايات ومجزوءات التكوين في المراكز الجهوية.
تؤكد التقارير الدولية الصادرة قبل نظام 2024 صحة التوجه الإصلاحي الجديد. فقد خلص تقرير "SABER" للبنك الدولي لعام 2016 إلى أن تقييم الأساتذة في المغرب، رغم ارتباطه بالترقية، لم يكن فعالًا في تحسين الممارسة التعليمية، مشيرًا إلى غياب التكوين المستمر الإلزامي والحاجة إلى إطار تقييم أكثر شمولية. وبالمثل، أشار تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية لعام 2018 إلى "فجوات كبيرة" في نظام التقييم، وأوصى بوضع إطار متماسك للمعايير المهنية، وربط التقييم بالتعلم المهني، وإعادة تصميم التقييم الخارجي لإدارة الأداء ومكافأته بشكل أفضل.
بناء قدرات المُقيِّمين: استلهامًا من الحوار التنموي في النموذج الفنلندي والعملية المنظمة في النموذج السنغافوري، يجب على المغرب الاستثمار بكثافة في تكوين مديري المؤسسات والمفتشين. يجب أن يركز هذا التكوين على تقنيات التدريب (Coaching)، وتقديم التغذية الراجعة البناءة، وتحليل الممارسة، وهو ما يمثل قطيعة مع نموذج التفتيش التقليدي.
اعتماد نموذج "التطوير المهيكل": بدلًا من استنساخ نموذج واحد، يمكن للمغرب أن يتبنى مقاربة هجينة: الاستفادة من هيكلة المسارات المهنية في النموذج السنغافوري (ربط التقييم الواضح بالترقية وأدوار جديدة مثل "أستاذ خبير")، مع تبني الفلسفة التنموية القائمة على الثقة في النموذج الفنلندي (استخدام التقييم كأداة للحوار وتحديد احتياجات التكوين). إن وجود بابين منفصلين للتقييم والتحفيز في النظام الأساسي الجديد يوفر الأساس القانوني لهذه المقاربة الهجينة.
تعزيز دور مدير المؤسسة: يقتضي النظام الجديد دورًا أكبر لمدير المؤسسة كمُقيِّم ومُوجِّه مباشر. وهذا يتطلب توضيح مسؤولياته تجاه هيئة التفتيش وتزويده بالتكوين والوقت اللازمين للقيام بهذا الدور بفعالية، وهي نقطة ضعف سبق أن أشار إليها تقرير البنك الدولي.
يقف المغرب اليوم عند منعطف حاسم. لقد تم وضع الأساس التشريعي، لكن نجاح الإصلاح سيتوقف على جودة تنزيله. وتتمثل التحديات الرئيسية في تغيير الثقافة السائدة لدى المُقيِّمين، وتصميم أدوات تقييم فعالة، وتوفير برامج تكوين واسعة النطاق.
يتتبع هذا التقرير هذا المسار عبر أربع مراحل متميزة ومترابطة: الانطلاقة المثالية مع الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999)؛ التدخلات البراغماتية والمُحدثة للقطيعة مع البرنامج الاستعجالي (2009-2012)؛ إعادة التوجيه الاستراتيجي نحو المهننة في الرؤية الاستراتيجية (2015-2030)؛ وأخيرًا، التوحيد التشريعي وحل الإشكاليات في النظام الأساسي لعام 2024.
إن فعالية إطار التقييم الجديد لعام 2024 ستعتمد بشكل حاسم على قدرته على سد الفجوة التاريخية بين الكفايات المكتسبة خلال التكوين الأساس وتحديات التقييم المهني، وهي فجوة شكلت مصدر احتكاك بنيوي لأكثر من عقدين. إن تاريخ الإصلاحات التعليمية في المغرب ليس مجرد تقدم خطي، بل هو دورة تفاعلية من الأزمات والتدخلات وإعادة بناء الاستراتيجيات. فاللغة المستخدمة في تقديم كل إصلاح تكشف عن هذا النمط؛ فقد جاء البرنامج الاستعجالي ليمنح "نفسًا جديدًا" للإصلاح و"ينقذ" الميثاق من بطء تنزيله. وبالمثل، كانت الرؤية الاستراتيجية استجابة "لمحدودية الإصلاحات المتعاقبة"، بينما كان النظام الأساسي لعام 2024 نتيجة مباشرة للاحتجاجات الواسعة ضد النظام السابق. هذا التسلسل لا يعكس مراحل مخطط لها مسبقًا، بل دورة متكررة من الاستجابة للأعطال، مما يوحي بوجود انفصال مستمر بين تصميم السياسات وتنفيذها على أرض الواقع. وقد أدى هذا الوضع إلى ما يمكن تسميته "إرهاق الإصلاح" وثقافة من التشكك لدى الفاعلين التربويين. لذلك، يجب تحليل النظام الأساسي لعام 2024 ليس فقط كنص قانوني، بل كمحاولة لإرساء "عقد اجتماعي" جديد وأكثر استقرارًا مع مهنة التدريس لكسر هذه الدورة.
1. الرؤية المؤسِّسة: الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999)
الأسس الفلسفية
شكّل الميثاق الوطني للتربية والتكوين، الذي صدر عام 1999، وثيقة مرجعية وضعت التعليم في صدارة الأولويات الوطنية. ارتكز الميثاق على مبادئ ثابتة مستمدة من العقيدة الإسلامية والهوية الوطنية، مع الانفتاح على متطلبات العصر. ومن أبرز مستجداته، إقراره لمبدأين أساسيين: "جعل المتعلم في قلب العملية التعليمية-التعلمية" وتبني "المقاربة بالكفايات" كإطار بيداغوجي جديد.الخطاب حول الموارد البشرية
خصص الميثاق مجالًا كاملًا (المجال الرابع) لـ"الموارد البشرية"، مما شكل تحولًا خطابيًا نحو تثمين دور الأستاذ كفاعل أساسي في عملية الإصلاح. ودعا النص صراحة إلى "حفز المدرسين" وضمان حقوقهم وواجباتهم، مع التأكيد على ضرورة التكوين المستمر والمستديم.التقييم كمفهوم عام
أدخل الميثاق مفهوم التقييم المؤسسي من خلال "آليات المتابعة والتقييم" لضمان تنفيذ الإصلاحات المقررة. وتحدث عن ضرورة "التزام الموضوعية والإنصاف في التقويمات والامتحانات"، وأناط بالإدارة التربوية مهمة "تتبع أداء الجميع وتقويمه".لكن على الرغم من غنى الميثاق بالمبادئ، إلا أنه اتسم بغموض في آليات التنفيذ. لقد أحدث تحولًا فلسفيًا دون أن يوفر الأدوات الإجرائية اللازمة لتطبيقه، خاصة فيما يتعلق بتقييم أداء الأساتذة. فبينما أرسى الميثاق "لماذا" الإصلاح (الجودة، الكفايات)، فإنه لم يوضح "كيف" سيتم تقييم الأداء المهني للأستاذ. لم تتضمن الوثائق التأسيسية للميثاق أي شبكات تقييم أو معايير أداء واضحة، بل تركت ذلك لمرحلة التنفيذ. في ظل هذا الفراغ، استمر النظام القديم القائم على التفتيش الإداري، الذي يركز على الامتثال الإداري مثل احترام استعمال الزمن والانضباط. وعليه، نشأ انفصال بنيوي منذ البداية: طُلب من المنظومة تطبيق بيداغوجيا جديدة (المقاربة بالكفايات) بينما استمر تقييمها بأدوات قديمة (التفتيش الإداري). هذا الغموض التأسيسي مهّد الطريق للصراعات المستقبلية والحاجة إلى إصلاحات لاحقة حاولت خلق الأدوات التنفيذية التي افتقر إليها الميثاق.
2. محاولة التسريع عن طريق البرنامج الاستعجالي (2009-2012)
التشخيص والاستجابة
جاء البرنامج الاستعجالي كخطة تدخل عاجلة لـ"إنقاذ النسق التربوي" و"تسريع وثيرة الإصلاح". وقد تم إطلاقه استجابة للتقارير الوطنية والدولية التي سجلت بطء تنزيل مقتضيات الميثاق الوطني وتدني مؤشرات التنمية البشرية المرتبطة بالتعليم في المغرب.أجرأة الإصلاح عبر المشاريع
اعتمد البرنامج على هيكلة محكمة قائمة على 23 مشروعًا موزعة على أربعة مجالات تدخل حاسمة. استهدفت عدة مشاريع منها بشكل مباشر تكوين وتقييم الأساتذة:المشروع 15: "تعزيز كفاءات الأطر التربوية": هدف إلى مراجعة شروط الولوج لمراكز التكوين، وتوحيدها في إطار المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين (CRMEF)، وتطوير برامج التكوين المستمر.
المشروع 16: "تعزيز آليات التأطير والتفتيش والتقييم": سعى إلى ربط الفعالية بالتحفيز، وملاءمة نظام التقييم، وإعادة تحديد أدوار هيئة التفتيش.
المشروع 17: "ترشيد الموارد البشرية": أدخل مفاهيم جديدة مثل التدبير اللاممركز، والأستاذ متعدد التخصصات، والأستاذ المتنقل.
قطيعة التوظيف بالتعاقد
كان الإجراء الأكثر تأثيرًا وإثارة للجدل هو إقرار "التوظيف الجهوي على أساس التعاقد". ورغم أن هذا الإجراء قُدم كآلية لترشيد الموارد، فقد اعتبرته النقابات التعليمية ضربًا لاستقرار المهنة وحقوق الشغيلة التعليمية.لقد سعى البرنامج الاستعجالي إلى تحقيق هدفين متناقضين في آن واحد: مهننة الفعل التربوي من جهة، وهشاشة الوضع الوظيفي من جهة أخرى. ففي الوقت الذي أنشأ فيه المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين بهدف توحيد التكوين الأساس ورفع جودته، وهو توجه نحو المهننة، أقر نظام التوظيف بالتعاقد الذي يخلق بطبيعته حالة من عدم الاستقرار الوظيفي ويفصل هيئة التدريس إلى فئتين. هذا التناقض أصبح جوهر الصراع في قطاع التعليم للعقد التالي، حيث كان الأستاذ يُكوَّن كمهني محترف في المراكز الجهوية، لكنه يُوظَّف كعون مؤقت. وأصبح تقييمه مرتبطًا بشكل أساسي بتجديد العقدة وليس بالتطور الوظيفي طويل الأمد، مما خلق نظامًا ثنائيًا يستحيل معه بناء منظومة تقييم موحدة ترتكز على التطوير المهني. هذا التناقض الداخلي هو الذي غذى الاحتجاجات التي أدت في نهاية المطاف إلى إلغاء نظام التعاقد وإصدار النظام الأساسي الموحد لعام 2024.
3. البحث عن الجودة والإنصاف من خلال الرؤية الاستراتيجية (2015-2030)
تشخيص جديد
أطلق المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي "الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030" كخارطة طريق طويلة الأمد "من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء". جاءت هذه الرؤية كاستجابة للاعتراف بـ"محدودية الإصلاحات المتعاقبة" وضرورة تجاوز الاختلالات التي كشف عنها تقييم تطبيق الميثاق الوطني.نموذج المهننة
تبنت الرؤية بشكل صريح نموذج المهننة، حيث دعت إلى "الانتقال من منطق التلقين والشحن إلى منطق التعلم وتنمية الحس النقدي". وأكدت على ضرورة بناء مشروع شخصي للمتعلم وتزويده بالكفايات والقيم والتكنولوجيات الرقمية.ربط التقييم بالتكوين والمسار المهني
أرست الرؤية الاستراتيجية ربطًا مفاهيميًا واضحًا بين التقييم والتكوين والترقي المهني. فقد دعت إلى تجديد نظام التقييم والترقية على أساس الاستحقاق والأداء، وجعل التكوين المستمر إلزاميًا ومكونًا أساسيًا للتطور المهني. وتتوافق هذه التوجهات مع توصيات تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) لعام 2018 حول المغرب، الذي شدد على ضرورة وضع إطار متماسك لتقييم أداء الأساتذة وربطه بالتطور المهني.مع ذلك، كانت الرؤية الاستراتيجية بمثابة "رؤية بدون آلية تنفيذ". لقد قدمت الإطار الفكري والاستراتيجي الذي سيشكل لاحقًا أساس النظام الأساسي لعام 2024، لكنها افتقرت إلى القوة القانونية والسياسية لفرض تطبيقه الفوري. فبينما كانت الرؤية تدعو إلى هيئة تدريس موحدة وممهننة، استمر الواقع الإداري في تكريس وتوسيع نظام التوظيف بالتعاقد، الذي كان يتناقض جوهريًا مع روح الرؤية. هذا التباين بين الخطاب الاستراتيجي الرسمي (الرؤية) والممارسة الإدارية الفعلية (التعاقد) خلق فجوة عميقة. وهكذا، عملت الرؤية كـ"ضمير" للمنظومة، حيث وفرت المبررات والإطار الذي استندت إليه لاحقًا مطالب النقابات التعليمية، والتي توجت بنظام 2024. إن الفترة الفاصلة بين إطلاق الرؤية (2015) وصدور النظام الأساسي (2024) تمثل عقدًا من التناقض البنيوي والتوتر الاجتماعي.
4. العقد الاجتماعي الجديد: النظام الأساسي لعام 2024 (مرسوم رقم 2.24.140)
السياق والنشأة
وُلد النظام الأساسي الجديد من رحم ضغط اجتماعي مكثف، بعد أشهر من الإضرابات الواسعة والمفاوضات المطولة بين الحكومة والنقابات التعليمية الأكثر تمثيلية. كان هدفه الأساسي هو حل أزمة النظام السابق عبر توحيد هيئة التدريس وطي صفحة التعاقد.تحليل تشريعي: التوحيد والمهننة
التوحيد: المقتضى الأبرز في النظام الجديد هو الإنهاء النهائي لنظام التعاقد. أصبح جميع العاملين بالقطاع موظفين عموميين في "وظيفة قارة"، ويخضعون لمقتضيات النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.هيكلة جديدة: تم تنظيم المرسوم في أبواب جديدة، من بينها باب رابع مخصص لـ"الترقية والتقييم" وباب سابع مبتكر حول "التحفيز المهني" ، مما يعكس توجهًا جديدًا نحو ربط الأداء بالمسار المهني والمكافآت.
عناصر التقييم: نص النظام الأساسي على أن تقييم الأداء المهني السنوي يتمحور حول أربعة عناصر أساسية:
1) إنجاز المهام المحددة،
2) جودة الممارسات المهنية (بما فيها استثمار التكوين المستمر)،
3) الالتزام بالضوابط المهنية،
4) الانخراط في تنزيل مشروع المؤسسة المندمج.
التقييم الذاتي: استحدث النظام الجديد مفهوم "استمارات التقييم الذاتي" الاختيارية، وهي خطوة نحو إرساء ممارسة أكثر تبصرًا وتشاركية.
هيئة التفتيش المتجددة
أعاد النظام الأساسي الجديد تعريف هيئة التفتيش في إطار موحد هو "هيئة التفتيش والتأطير والمراقبة والتقييم". وأصبحت مهامها متعددة الأبعاد، لتشمل ليس فقط التفتيش والافتحاص، بل أيضًا "تتبع وتقويم التعلمات"، و"التأطير والمواكبة"، والبحث التربوي.إن التحدي الأكبر الذي يواجه تطبيق نظام التقييم الجديد ليس تشريعيًا بل ثقافي. فالقانون يعيد تعريف دور المفتش ليصبح أكثر دعمًا وتوجيهًا، لكن عقودًا من الممارسة رسخت دوره كمراقب ومُنقِّط لأغراض الترقية. يتطلب الانتقال من ثقافة المراقبة إلى ثقافة التطوير إعادة تأهيل شاملة لهيئة التفتيش ومديري المؤسسات لتدريبهم على كيفية إدارة حوارات الأداء، وتقديم تغذية راجعة بناءة، واستخدام شبكات التقييم الجديدة ليس فقط للتنقيط، بل لتحديد الاحتياجات في مجال التكوين المستمر. فبدون هذا التحول الثقافي والعملي، هناك خطر حقيقي من أن تُستخدم الأدوات الجديدة بنفس العقلية القديمة، مما يقوض الهدف التنموي للقانون.
5. ملتقى التكوين والتقييم: تحليل نقدي
المراكز الجهوية كمحرك للمهننة
شكل إحداث المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين (CRMEF) حجر الزاوية في البرنامج الاستعجالي، بهدف توحيد ومهننة التكوين الأساس للأساتذة. وقد حلت هذه المراكز محل نظام مجزأ، وأرست نموذج تكوين يقوم على التناوب بين النظري والتطبيقي.
منهاج الممارسة
يُعد "تحليل الممارسات المهنية" مكونًا أساسيًا في مناهج التكوين بالمراكز الجهوية. صُممت هذه المجزوءة خصيصًا لتنمية الممارس المتبصر، حيث يتعلم الأساتذة المتدربون ملاحظة ممارساتهم ومساءلتها والتنظير لها بهدف تطويرها.الانفصال التاريخي
يكمن التوتر الجوهري في كون الأساتذة كانوا يُكوَّنون في المراكز الجهوية ليصبحوا مهنيين متبصرين ومستقلين، لكنهم كانوا يلتحقون بنظام يظل فيه التقييم عملية فوقية، نادرة، وترتكز على مراقبة الامتثال الإداري. إن مهارات التحليل الذاتي والممارسة التبصرية التي تُدرَّس في مجزوءة "تحليل الممارسات المهنية" لم يكن لها مكان رسمي في شبكات التقييم التقليدية.نظام 2024 كجسر محتمل
يحاول النظام الأساسي الجديد سد هذه الفجوة. فمن خلال إدراج "جودة الممارسات المهنية" و"استثمار التكوين المستمر" كمعايير للتقييم، وإدخال "التقييم الذاتي" الاختياري، فإنه يخلق مساحة رسمية للاعتراف بالكفايات التبصرية التي يتم تطويرها في المراكز الجهوية وتثمينها أثناء الممارسة المهنية.في غياب إطار مرجعي وطني موحد للكفايات المهنية، والذي دعت إليه وثائق مرجعية عديدة مثل القانون الإطار 51.17، فإن مناهج التكوين في المراكز الجهوية، وخاصة مجزوءات مثل "تحليل الممارسات المهنية" والديداكتيك، قد عملت كإطار مرجعي
فعلي للكفايات. لم تكن هذه المراكز مجرد فضاءات للتكوين، بل كانت الحاضنات والموزعات الرئيسية للكفايات المهنية الحديثة التي بدأ نظام التقييم الأوسع في الاعتراف بها رسميًا فقط مع قانون 2024. وعليه، فإن النظام الجديد، بإدراجه معايير تتماشى مع هذه الكفايات، يقوم فعليًا باللحاق بنموذج الكفايات الذي كانت تروج له المراكز الجهوية وتثبيته قانونيًا. لضمان نجاح تطبيق نظام التقييم الجديد، يجب أن تكون شبكات التقييم وقراراتها الوزارية متوائمة بشكل صريح ومتسق مع أطر الكفايات ومجزوءات التكوين في المراكز الجهوية.
6. منظورات دولية وتوصيات للتنفيذ
يوفر تحليل النماذج الدولية إطارًا مرجعيًا لتقييم التوجهات الجديدة في المغرب وتقديم توصيات عملية لتنزيلها.تشخيص البنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية
توصيات عملية للمغرب
تطوير شبكات تقييم متماسكة: الأولوية القصوى هي التطوير التشاركي (مع النقابات والخبراء) لشبكات التقييم التي نص عليها مرسوم 2024. يجب أن تترجم هذه الأدوات المعايير العامة للقانون إلى مؤشرات ملموسة وقابلة للملاحظة، مع ربطها بشكل واضح بإطار الكفايات المعتمد في المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين.بناء قدرات المُقيِّمين: استلهامًا من الحوار التنموي في النموذج الفنلندي والعملية المنظمة في النموذج السنغافوري، يجب على المغرب الاستثمار بكثافة في تكوين مديري المؤسسات والمفتشين. يجب أن يركز هذا التكوين على تقنيات التدريب (Coaching)، وتقديم التغذية الراجعة البناءة، وتحليل الممارسة، وهو ما يمثل قطيعة مع نموذج التفتيش التقليدي.
اعتماد نموذج "التطوير المهيكل": بدلًا من استنساخ نموذج واحد، يمكن للمغرب أن يتبنى مقاربة هجينة: الاستفادة من هيكلة المسارات المهنية في النموذج السنغافوري (ربط التقييم الواضح بالترقية وأدوار جديدة مثل "أستاذ خبير")، مع تبني الفلسفة التنموية القائمة على الثقة في النموذج الفنلندي (استخدام التقييم كأداة للحوار وتحديد احتياجات التكوين). إن وجود بابين منفصلين للتقييم والتحفيز في النظام الأساسي الجديد يوفر الأساس القانوني لهذه المقاربة الهجينة.
تعزيز دور مدير المؤسسة: يقتضي النظام الجديد دورًا أكبر لمدير المؤسسة كمُقيِّم ومُوجِّه مباشر. وهذا يتطلب توضيح مسؤولياته تجاه هيئة التفتيش وتزويده بالتكوين والوقت اللازمين للقيام بهذا الدور بفعالية، وهي نقطة ضعف سبق أن أشار إليها تقرير البنك الدولي.
ختاما:
يلخص المسار الممتد لربع قرن تحولًا من نظام مجزأ قائم على الامتثال إلى إطار موحد يهدف إلى المهننة من خلال ترسيخ المكتسبات ورسم معالم المستقبل. يمثل النظام الأساسي لعام 2024 تتويجًا لهذه العملية الطويلة، حيث يحل قانونيًا التناقضات الجوهرية، مثل نظام التعاقد، التي أعاقت المنظومة لسنوات.يقف المغرب اليوم عند منعطف حاسم. لقد تم وضع الأساس التشريعي، لكن نجاح الإصلاح سيتوقف على جودة تنزيله. وتتمثل التحديات الرئيسية في تغيير الثقافة السائدة لدى المُقيِّمين، وتصميم أدوات تقييم فعالة، وتوفير برامج تكوين واسعة النطاق.
إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة
Tags
إضاءات قانونية
