
المقدمة: سياقات ودوافع التحول البيداغوجي في المنظومة التربوية المغربية
تشهد المنظومة التربوية المغربية منعطفًا تاريخيًا، يتجسد في تبني مقاربات بيداغوجية جديدة تهدف إلى إحداث قطيعة مع سنوات من التعثرات المتراكمة. هذا التحول، الذي يقع في صلب "خارطة الطريق 2022-2026"، لا يمثل مجرد تعديل سطحي للمناهج، بل يعكس تحولًا عميقًا في الفلسفة التربوية للدولة، ينتقل من التركيز على الإصلاحات الهيكلية والتشريعية إلى التدخل المباشر في الممارسة الصفية اليومية، أو ما يُعرف بـ"الصندوق الأسود" للعملية التعليمية-التعلمية. إن هذا التوجه الجديد لم يأتِ من فراغ، بل هو استجابة حتمية لأزمة تعلمات عميقة وموثقة، كشفت عنها التقييمات الوطنية والدولية المتعاقبة، والتي دقت ناقوس الخطر حول جودة التعليم العمومي وقدرته على تزويد المتعلمين بالمهارات الأساسية اللازمة لمواصلة مسارهم الدراسي والاندماج في المجتمع.
يُعد الدافع الرئيسي لهذا الإصلاح هو "أزمة التعلمات" التي يعاني منها النظام التعليمي المغربي، وهي حقيقة أقرت بها وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة نفسها. وقد قدمت الدراسة الدولية لتقويم تطور الكفايات القرائية (PIRLS 2021) أرقامًا صادمة عززت هذا التشخيص، حيث احتل المغرب المرتبة 56 من أصل 57 دولة مشاركة. وكشفت النتائج أن 59% من تلاميذ المستوى الرابع ابتدائي لا يتحكمون في الحد الأدنى من كفايات القراءة، وهو ما يؤكد أن نسبة كبيرة من التلاميذ يصلون إلى مستويات متقدمة دون امتلاك الأدوات المعرفية الأساسية. هذا الواقع المأزوم، الذي تراكم على مدى سنوات، جعل من معالجة التعثرات وتجويد التعلمات الأساس أولوية قصوى، وهو ما شكل المبرر الأساسي لاعتماد مقاربات أثبتت نجاعتها في سياقات دولية مشابهة، وتحديدًا التعليم الصريح ومقاربة "التدريس وفق المستوى المناسب" (TaRL).في هذا السياق، تأتي "خارطة الطريق 2022-2026" كإطار سياسي وتنفيذي يهدف إلى رسم معالم "مدرسة عمومية ذات جودة للجميع". تمثل هذه الخارطة نقلة نوعية في منهجية الإصلاح، حيث تضع الممارسة البيداغوجية في قلب التغيير. فبدلاً من الاكتفاء بتغيير المقررات أو الهياكل الإدارية، وهو ما وسم الإصلاحات السابقة التي لم تحقق أهدافها المرجوة، يركز الإصلاح الحالي على كيفية تفاعل الأستاذ مع التلميذ داخل الفصل، وعلى الطرق المعتمدة لتقديم المعرفة وتقييمها. إن هذا التركيز على البيداغوجيا هو اعتراف ضمني بأن الإصلاحات السابقة فشلت لأنها لم تعالج جوهر العملية التربوية. وبالتالي، فإن اعتماد نماذج شديدة الهيكلة مثل التعليم الصريح و"طارل" هو محاولة لفرض نموذج عملي ومُجرَّب، يُعتقد أنه قادر على تحقيق نتائج ملموسة وسريعة في معالجة ضعف التحصيل الدراسي.
يطرح هذا التحول الجذري تساؤلات عميقة حول مستقبل المقاربات التي هيمنت على الخطاب التربوي المغربي لعقود، وعلى رأسها المقاربة بالكفايات. فهل يمثل اعتماد التعليم الصريح، الذي يركز على دور المدرس المباشر، قطيعة تامة مع فلسفة المقاربة بالكفايات التي تضع المتعلم في مركز العملية؟ أم أننا نشهد محاولة للتوفيق بين النموذجين؟ وكيف تتكامل مقاربة "طارل" العلاجية مع التعليم الصريح الوقائي في إطار مشروع "مؤسسات الريادة" الذي يُعتبر المختبر الفعلي لهذا الإصلاح؟ يهدف هذا البحث إلى تقديم دراسة تحليلية شاملة لهذا التحول، من خلال تفكيك الأسس النظرية للمقاربات الجديدة، ورصد علاقتها الجدلية بالمقاربة بالكفايات، وتقييم النتائج الأولية للتجربة والتحديات التي تواجهها، بهدف فهم أعمق لمآلات المدرسة المغربية في ظل هذا المنعطف الإصلاحي الهام.
الفصل الأول: التعليم الصريح - الأسس النظرية والنموذج البيداغوجي المعتمد
يمثل اعتماد "التعليم الصريح" (Instruction Explicite) الركيزة الأساسية للنموذج البيداغوجي الجديد الذي تتبناه وزارة التربية الوطنية. وهو ليس مجرد تقنية تدريس، بل هو مقاربة متكاملة ومنهجية، تستند إلى عقود من الأبحاث في علوم التربية وعلم النفس المعرفي، وتهدف إلى ضمان اكتساب جميع المتعلمين، وخاصة أولئك الذين يواجهون صعوبات، للمفاهيم والمهارات الأساسية بفعالية وكفاءة. لفهم أبعاد هذا الاختيار، لا بد من تفكيك أسسه النظرية، ومبادئه الجوهرية، وهيكلة الدرس التي يقترحها، وكيفية توظيفه كآلية "وقائية" ضمن مشروع "مؤسسات الريادة".
المبحث الأول: المبادئ والخصائص الجوهرية للبيداغوجيا الصريحة
يُعرَّف التعليم الصريح بأنه نهج تعليمي منظم، مباشر، وقائم على الأدلة، يقوده ويوجهه المدرس بهدف تحسين نتائج التعلم لدى الطلاب من جميع المستويات. وقد اكتسب هذا النموذج شرعيته العلمية من خلال دراسات مقارنة واسعة النطاق، أبرزها تلك التي قادها الباحث باراك روزنشاين، والتي امتدت لأكثر من عشر سنوات وقارنت بين تسع مقاربات بيداغوجية مختلفة. خلصت هذه الدراسة إلى أن "التعليم المباشر" (Direct Instruction)، وهو مرادف للتعليم الصريح، كان المقاربة الأفضل من حيث النتائج، ليس فقط في تحقيق الأهداف المعرفية، بل أيضًا في اكتساب الكفايات العليا. هذا التأصيل العلمي هو ما دفع العديد من الأنظمة التعليمية، ومنها المغرب، إلى تبنيه كحل لمواجهة أزمة التعلمات.يقوم التعليم الصريح على مجموعة من المبادئ الأساسية التي تشكل فلسفته وتوجه ممارساته داخل الفصل:
- الوضوح والتصريح بالأهداف (Clarté et Énonciation des Objectifs): على عكس المقاربات الاستكشافية التي كانت سائدة، والتي تترك المتعلم يكتشف الهدف بنفسه، يفرض التعليم الصريح على المدرس أن يصرح بوضوح في بداية الحصة بما سيتم تعلمه وكيفية الوصول إليه. هذا التصريح المسبق بالهدف (مثلاً: "في نهاية هذه الحصة، ستكونون قادرين على تحديد الفاعل في جملة فعلية وتمييزه عن المفعول به") يساعد المتعلمين على تركيز انتباههم وجهودهم المعرفية، ويوفر لهم خارطة طريق واضحة لما هو متوقع منهم.
- التدرج المنظم وتجزئة المحتوى (Progression Systématique et Segmentation): يستند هذا المبدأ إلى نظريات علم النفس المعرفي، خاصة نظرية الحمل المعرفي (Théorie de la Charge Cognitive). يدرك التعليم الصريح أن الذاكرة العاملة للمتعلم محدودة السعة، وبالتالي فإن تقديم مفاهيم معقدة دفعة واحدة يؤدي إلى إرهاقها وفشل عملية التعلم. لذلك، يتم تجزئة كل مهارة أو معرفة معقدة إلى مكوناتها البسيطة، وتقديمها بشكل متدرج ومنطقي، من البسيط إلى المركب، ومن الملموس إلى المجرد. هذا التخفيف من الحمولة المعرفية يتيح للمتعلم استيعاب كل جزء على حدة قبل الانتقال إلى الجزء التالي، مما يضمن بناءً متينًا للمعرفة.
- دور المدرس المحوري والفاعل (Rôle Central et Actif de l'Enseignant): في هذا النموذج، لا يقتصر دور المدرس على التوجيه والتنشيط من بعيد، بل هو قائد العملية التعليمية. هو من يخطط الدرس بدقة، ويقدم النموذج (Modélisation)، ويشرح الاستراتيجيات، ويفكر بصوت مرتفع ليجعل مسارات تفكيره مرئية للمتعلمين، ويقود الممارسة الموجهة، ويقدم الدعم، ويحفز، ويراقب الفهم باستمرار. من المهم التأكيد على أن هذا الدور المحوري لا يعني العودة إلى التلقين التقليدي؛ فالتعليم الصريح يتضمن تفاعلًا مستمرًا، لكن هذا التفاعل منظم وموجه من قبل المدرس لتحقيق أهداف محددة، وينطلق من مبدأ أن "المتعلم لا يتعلم إلا إذا كان المدرس يقوم بعملية التدريس".
- التفاعل والتقويم التكويني المستمر (Interaction et Évaluation Formative Continue): الحصة الدراسية في التعليم الصريح هي حوار مستمر بين المدرس والمتعلمين. يقوم المدرس بطرح أسئلة كثيرة ومتنوعة للتأكد من الفهم في كل خطوة من خطوات الدرس. هذه المراقبة المستمرة تسمح له بتقديم تغذية راجعة فورية وإيجابية وتصحيحية، والتدخل في الوقت المناسب لمعالجة أي سوء فهم قبل أن يتراكم. هذا التقييم المدمج في سيرورة الدرس هو ما يضمن عدم تخلف أي تلميذ عن الركب.
- التركيز على الذاكرة طويلة المدى (Focalisation sur la Mémoire à Long Terme): يهدف التعليم الصريح إلى تحقيق تعلم مستدام، وهو ما يتطلب نقل المعارف والمهارات من الذاكرة العاملة قصيرة الأمد إلى الذاكرة طويلة الأمد. لتحقيق ذلك، يركز النموذج على استراتيجيات المراجعة المنتظمة والمتكررة (اليومية والأسبوعية) والربط المستمر بين التعلمات الجديدة والسابقة. فالتكرار المنهجي للعمليات والأنشطة لا يهدف إلى الحفظ الآلي، بل إلى ترسيخ المعرفة وجعل استدعائها آليًا، مما يحرر مساحة في الذاكرة العاملة لمعالجة مهام أكثر تعقيدًا في المستقبل.
المبحث الثاني: هيكلة الدرس الصفي ومراحل التفويض التدريجي للمسؤولية
لترجمة هذه المبادئ إلى ممارسة صفية، يعتمد النموذج المغربي للتعليم الصريح، خاصة في "مؤسسات الريادة"، على هيكلة دقيقة وموحدة للدرس، غالبًا ما يتم تقديمها عبر شرائح رقمية (PowerPoint) مُعدّة مركزيًا وموحدة على الصعيد الوطني. هذا التنميط، رغم ما يثيره من جدل، يهدف إلى ضمان تطبيق المنهجية بشكل متسق ودعم الأساتذة، خاصة الجدد منهم.
تقوم هذه الهيكلة على مبدأ "التفويض التدريجي للمسؤولية" (Délégation Progressive de la Responsabilité)، حيث تنتقل مسؤولية إنجاز المهمة التعليمية شيئًا فشيئًا من المدرس إلى المتعلم عبر خمس مراحل متسلسلة ومحددة زمنيًا:
- الافتتاح (Ouverture): تبدأ الحصة بأنشطة اعتيادية قصيرة لتهيئة جو التعلم (مثل قراءة التاريخ، حالة الطقس). ثم، يقوم المدرس بمراجعة سريعة للتعلمات السابقة الضرورية للدرس الجديد، للتأكد من أن جميع التلاميذ يمتلكون المتطلبات الأساسية. المرحلة الأهم في الافتتاح هي التصريح الصريح والواضح بهدف الحصة، كما ذكرنا سابقًا.
- النمذجة (Modélisation - "أنا أفعل"): هذه هي مرحلة التعليم المباشر بامتياز. يقوم المدرس بتقديم المفهوم أو المهارة الجديدة بنفسه. يشرح القاعدة، يقدم مثالًا نموذجيًا، والأهم من ذلك، "يفكر بصوت مرتفع" (Réflexion à voix haute)، حيث يصف للمتعلمين الخطوات التي يتبعها لحل المشكلة والاستراتيجيات الذهنية التي يستخدمها. الهدف هو جعل عملية التفكير، التي هي عملية داخلية غير مرئية، عملية خارجية ومرئية وقابلة للتقليد من طرف المتعلم.
- الممارسة الموجهة (Pratique Guidée - "نحن نفعل"): بعد أن قدم المدرس النموذج، تبدأ مرحلة التطبيق المشترك. يعمل التلاميذ، تحت إشراف وتوجيه دقيقين من المدرس، على حل تمارين أو مهام مشابهة للمثال النموذجي. يمكن أن تكون هذه الممارسة جماعية (مع كل القسم) أو في مجموعات صغيرة. دور المدرس هنا هو طرح الأسئلة، تقديم تلميحات، تصحيح الأخطاء فور وقوعها، وتقديم دعم مكثف لضمان فهم الجميع. إنها مرحلة بناء الثقة وتعميق الفهم قبل الانتقال إلى الاستقلالية.
- الممارسة المستقلة (Pratique Autonome - "أنتم تفعلون"): في هذه المرحلة، يتم تفويض المسؤولية بشكل شبه كامل للمتعلم. يُطلب من التلاميذ تطبيق ما تعلموه بشكل فردي أو في أزواج على مهام جديدة. ينسحب المدرس من دور الموجه المباشر إلى دور المراقب، حيث يتجول بين الصفوف ويقدم المساعدة فقط عند الضرورة القصوى أو لمن يظهرون صعوبة بالغة. الهدف هو التحقق من قدرة كل متعلم على إنجاز المهمة بنجاح وبشكل مستقل.
- الاختتام (Clôture): في نهاية الحصة، يتم تخصيص وقت قصير لمراجعة سريعة للمفهوم الأساسي للدرس والتحقق من مدى تحقق الهدف الذي تم التصريح به في البداية. قد يطرح المدرس سؤالًا ختاميًا، أو يطلب من بعض التلاميذ تلخيص ما تعلموه، لترسيخ التعلمات والتأكد من تحقيق الهدف المنشود لدى أغلبية التلاميذ.
المبحث الثالث: التنزيل في "مؤسسات الريادة" كآلية وقائية
في إطار النموذج البيداغوجي الجديد، يُقدَّم التعليم الصريح باعتباره مقاربة "وقائية" (Approche Préventive). تكمن الفكرة الأساسية وراء هذا التوصيف في أن التطبيق المنهجي والدقيق لهذه المقاربة في تدريس المنهاج الدراسي العادي يهدف إلى منع تراكم التعثرات الدراسية من الأصل. فمن خلال ضمان بناء التعلمات الأساسية (في القراءة والكتابة والرياضيات) بشكل سليم ومنظم وواضح لدى جميع التلاميذ منذ السنوات الأولى، يسعى النظام إلى تقليص الحاجة إلى تدخلات علاجية مكثفة في مراحل لاحقة. بمعنى آخر، إذا تم بناء الأساس بشكل صحيح، فإن احتمال انهيار البناء لاحقًا يقل بشكل كبير.
يتم تنزيل هذا النموذج حاليًا بشكل مكثف في "مؤسسات الريادة"، التي تمثل المختبر الميداني لهذا الإصلاح. وقد بدأت التجربة في سلك التعليم الابتدائي، مع وجود خطة طموحة لتوسيعها تدريجيًا لتشمل 2000 مؤسسة ابتدائية جديدة كل سنة، بهدف تحقيق التعميم الكامل على جميع مدارس التعليم الابتدائي في المغرب بحلول سنة 2026. كما انطلقت التجربة في عدد من الثانويات الإعدادية ابتداءً من الدخول المدرسي 2024-2025.
إن اختيار تنميط طريقة التدريس عبر شرائح رقمية موحدة وطنيًا هو في حد ذاته قرار استراتيجي يخدم هذا الهدف الوقائي. فمن وجهة نظر الوزارة، تضمن هذه الأدوات الجاهزة أن جميع التلاميذ، بغض النظر عن المدرسة التي يرتادونها أو خبرة أستاذهم، يتلقون تعليمًا يلتزم بمبادئ الفعالية التي أثبتتها الأبحاث. ومع ذلك، فإن هذا الاختيار يمثل سيفًا ذا حدين. فبينما يضمن حدًا أدنى من الجودة والاتساق ويوفر دعمًا قيمًا للأساتذة الأقل خبرة، فإنه في المقابل يثير مخاوف جدية حول تقييد استقلالية الأستاذ وخنقه للإبداع البيداغوجي. لقد أشار خبراء تربويون ونقابات إلى أن هذا "التنميط" المفرط قد يحول الأستاذ من فاعل تربوي ومبدع إلى مجرد منفذ لتعليمات ومحتويات جاهزة، مما يحد من قدرته على تكييف الدرس مع الحاجات الحقيقية والفورية لتلاميذه. هذه الإشكالية تمثل أحد التوترات الجوهرية في قلب الإصلاح الحالي: هل الهدف هو بناء نظام تعليمي ينجح "بالرغم" من تفاوت أداء أساتذته عبر توحيد الممارسة، أم تمكين الأساتذة ليصبحوا هم أنفسهم محرك نجاح النظام؟ يبدو أن التوجه الحالي يميل بقوة نحو الخيار الأول، وهو ما ستكون له تداعيات عميقة على مستقبل مهنة التدريس والتطوير المهني للأطر التربوية.
الفصل الثاني: مقاربة "طارل" (TaRL) - آلية علاجية لسد الفجوات التعلمية
إذا كان التعليم الصريح يمثل الجانب "الوقائي" في النموذج البيداغوجي الجديد، فإن مقاربة "التدريس وفق المستوى المناسب" (Enseignement au Bon Niveau)، المعروفة اختصارًا بـ "طارل" (TaRL)، تشكل الجانب "العلاجي". هذه المقاربة، التي تم استيرادها وتكييفها من التجربة الهندية الناجحة لمنظمة Pratham، تأتي كحل مباشر وعملي لمعضلة التعثرات الدراسية العميقة والمتراكمة التي يعاني منها عدد كبير من تلاميذ المدرسة العمومية المغربية. إنها تمثل اعترافًا صريحًا بأن تطبيق أي منهج دراسي، مهما كان جيدًا، سيظل عديم الجدوى إذا لم يكن التلاميذ يمتلكون المهارات الأساسية التي تمكنهم من استيعاب محتوياته.
المبحث الأول: فلسفة ومبادئ التدريس وفق المستوى المناسب (TaRL)
تقوم فلسفة "طارل" على فكرة بسيطة لكنها ثورية: "ابدأ من حيث يوجد المتعلم، وليس من حيث يفترض أن يكون". فبدلاً من تدريس محتوى المنهاج الرسمي للمستوى الدراسي (مثلاً، منهاج المستوى الرابع)، الذي قد يكون بعيدًا كل البعد عن القدرات الحقيقية للتلميذ، تركز "طارل" حصريًا على المهارات التأسيسية في القراءة والحساب. الهدف ليس إكمال المقرر، بل ضمان أن كل طفل قادر على القراءة بفهم وإجراء العمليات الحسابية الأساسية.
لتحقيق هذا الهدف، ترتكز المقاربة على مجموعة من المبادئ العملية:
- التشخيص الدقيق والفردي: تبدأ العملية برمتها بتشخيص مستوى كل تلميذ على حدة باستخدام "رائز بسيط" وسريع. هذا الرائز لا يقيس المعارف المعقدة، بل المهارات الأساسية جدًا: هل يستطيع التلميذ تمييز الحروف؟ قراءة الكلمات؟ قراءة فقرة بسيطة؟ فهم ما يقرأ؟ إجراء عملية جمع بسيطة؟
- التفييء حسب المستوى لا السن (Grouping by Level, Not Grade): هذه هي السمة الأكثر تميزًا لمقاربة "طارل". بناءً على نتائج التشخيص، يتم تجميع التلاميذ في مجموعات صغيرة متجانسة حسب مستوى تحكمهم الفعلي، بغض النظر عن مستواهم الدراسي الرسمي أو سنهم. قد نجد في نفس المجموعة تلميذًا من المستوى الثالث وآخر من الخامس، كلاهما في مستوى "الكلمة" على سبيل المثال. هذا التفييء يسمح للمدرس بتقديم أنشطة تتناسب تمامًا مع احتياجات كل مجموعة، مما يجعل التعلم ممكنًا وفعالًا.
- التركيز الحصري على المهارات الأساسية: خلال حصص "طارل"، يتم تعليق العمل بالمنهاج الدراسي العادي. ينصب كل التركيز على بناء المهارات التأسيسية (compétences fondamentales) خطوة بخطوة. في القراءة، قد تبدأ مجموعة من مستوى "الحرف"، بينما تعمل مجموعة أخرى على "الطلاقة"، وأخرى على "الفهم". الهدف هو تحقيق تقدم ملموس وسريع في هذه المهارات الجوهرية.
- أنشطة تفاعلية وممتعة ومكيفة: تعتمد "طارل" بشكل كبير على أنشطة تفاعلية، وألعاب بيداغوجية، وقصص، وأنشطة مستقاة من الحياة اليومية للمتعلم. الهدف هو خلق بيئة تعلم آمنة ومحفزة تضمن انخراط التلاميذ، خاصة أولئك الذين فقدوا الثقة في قدراتهم بسبب الفشل المتكرر. الأنشطة تكون متنوعة، تنتقل من العمل مع القسم كله، إلى العمل في مجموعات المستوى، ثم إلى أنشطة فردية.
- التقويم المنتظم والانتقال المرن بين المجموعات: يتم تقييم تقدم التلاميذ بشكل مستمر. وعندما يتقن تلميذ ما مهارات مجموعته الحالية، يتم نقله فورًا إلى المجموعة ذات المستوى الأعلى. هذه المرونة تضمن أن كل تلميذ يتقدم حسب وتيرته الخاصة، وتحفزه على بذل المزيد من الجهد.
المبحث الثاني: العلاقة التكاملية بين "طارل" والتعليم الصريح ضمن النموذج الجديد
قد يبدو للوهلة الأولى أن هناك تعارضًا بين "طارل" والتعليم الصريح. فالأولى تبدو مرنة وتفاعلية، بينما الثانية تبدو صارمة وموجهة. لكن في الواقع، هما وجهان لعملة واحدة ضمن استراتيجية وزارة التربية الوطنية، حيث يشكلان نموذجًا متكاملًا ذا بعدين: علاجي ووقائي.
- "طارل" كمقاربة علاجية (Approche Curative):تُستخدم "طارل" كأداة تدخل جراحية لمعالجة "مرض" التعثرات المتراكمة. يتم تطبيقها بشكل مكثف في بداية السنة الدراسية، خلال شهري سبتمبر وأكتوبر على سبيل المثال، كما أشارت إلى ذلك بعض التقارير حول تجربة "مؤسسات الريادة". خلال هذه الفترة، يتم تجميد المنهاج الرسمي، وتخصيص كل الوقت المتاح لتطبيق أنشطة "طارل" بهدف رفع مستوى جميع التلاميذ إلى عتبة دنيا من الكفاءة. يمكن أيضًا استخدامها في إطار حصص الدعم التربوي على مدار السنة. بهذا المعنى، تُعتبر "طارل" بمثابة "مرحلة تشخيصية علاجية تسبق التدريس الصريح". إنها عملية "تنظيف" و"تسوية" للميدان قبل البدء في عملية البناء.
- التعليم الصريح كمقاربة وقائية (Approche Préventive): بمجرد أن تنجح "طارل" في تقليص الفجوات التعلمية وتزويد غالبية التلاميذ بالمهارات الأساسية اللازمة، يأتي دور التعليم الصريح. يبدأ المدرس في تدريس المنهاج الدراسي الرسمي للمستوى، لكن باستخدام الطريقة الصريحة المنظمة والواضحة. بما أن التلاميذ أصبحوا الآن يمتلكون الأدوات الأساسية (يمكنهم القراءة والكتابة والحساب)، فإنهم يكونون أكثر قدرة على متابعة الشرح المنظم للمدرس والمشاركة في الأنشطة الموجهة. الهدف الوقائي للتعليم الصريح هو أنه، من خلال منهجيته الدقيقة، يمنع ظهور تعثرات جديدة ويضمن أن التعلمات تُبنى على أساس متين.
- التكامل العملي وآثاره على الزمن المدرسي:العلاقة بين المقاربتين هي علاقة تكامل وتسلسل منطقي. "طارل" تعالج الماضي (التعثرات المتراكمة)، والتعليم الصريح يبني الحاضر ويؤمن المستقبل (يمنع تعثرات جديدة). بدون "طارل"، سيكون تطبيق التعليم الصريح غير فعال لجزء كبير من التلاميذ الذين يفتقرون إلى المتطلبات الأساسية، مما سيؤدي إلى إعادة إنتاج نفس الفجوات التي يسعى الإصلاح إلى معالجتها.
هذا التسلسل (طارل أولاً، ثم التعليم الصريح) يعيد تعريف بنية وإيقاع السنة الدراسية بشكل ضمني. لم تعد بداية العام الدراسي مخصصة لبدء المنهاج الجديد، بل أصبحت فترة مخصصة لإصلاح ومعالجة إخفاقات السنوات السابقة. هذا القرار هو اعتراف رسمي ومؤسساتي بأن نسبة كبيرة من التلاميذ لا يصلون إلى المستوى الدراسي الموالي وهم جاهزون له. وفي حين أن هذا ضروري من الناحية العلاجية، فإنه يضع ضغطًا هائلاً على ما تبقى من السنة الدراسية. فالفترة المخصصة لإنجاز المنهاج الرسمي تتقلص، مما يجعل من الضروري أن تكون مرحلة التعليم الصريح عالية الكفاءة والسرعة. هذا الضغط الزمني قد يكون أحد المبررات القوية التي دفعت الوزارة إلى اعتماد الشرائح الرقمية الموحدة والجاهزة، كوسيلة لضمان أقصى درجات الفعالية والسرعة في التقديم، حتى لو كان ذلك على حساب مرونة الأستاذ وإبداعه.
الفصل الثالث: مصير المقاربة بالكفايات - بين الإلغاء والتجاوز والتضمين
يثير التحول نحو التعليم الصريح و"طارل" سؤالاً جوهريًا ومثيرًا للجدل في الساحة التربوية المغربية: ما هو مصير المقاربة بالكفايات (Approche par Compétences - APC)؟ هذه المقاربة، التي شكلت الإطار المرجعي الرسمي للمنظومة التعليمية المغربية لأكثر من عقدين، تبدو في ظاهرها على طرفي نقيض مع النماذج الجديدة التي تركز على التعليم المباشر والمهارات الأساسية. هل نحن أمام عملية إلغاء صريح لهذا الإرث البيداغوجي؟ أم أن الأمر يتعلق بتجاوز وتطوير؟ أم بإعادة تموضع للمقاربة بالكفايات ضمن نسق جديد؟ للإجابة على هذا السؤال المعقد، لا بد من تحليل دقيق للعلاقة بين هذه المقاربات، وتفكيك ما هو ظاهري وما هو جوهري في هذا التحول.
لفهم أعمق للفروقات والتقاطعات، يمكن تقديم إطار مفاهيمي مقارن يوضح الخصائص الجوهرية لكل مقاربة كما تم تطبيقها أو كما يُراد تطبيقها في السياق المغربي. هذا الإطار يضع الأساس لفهم الحجة المركزية لهذا الفصل، وهي أن الكفاية لا تزال هي الهدف النهائي، لكن مسار الوصول إليها قد تغير بشكل جذري.
جدول 1: تحليل مقارن للمقاربات البيداغوجية في السياق المغربي
المبحث الأول: المقاربة بالكفايات كإطار مرجعي تاريخي للمنظومة
تم اعتماد المقاربة بالكفايات في المغرب بشكل رسمي مع مطلع الألفية، وتحديدًا في الموسم الدراسي 1999-2000، كجزء من الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وجاءت كبديل لبيداغوجيا الأهداف التي كانت سائدة قبلها. كانت هذه النقلة ثورة مفاهيمية في وقتها، حيث نقلت تركيز العملية التعليمية من "ماذا يجب على المدرس أن يُعلِّم؟" إلى "ماذا يجب على المتعلم أن يكون قادرًا على فعله؟".
تقوم فلسفة المقاربة بالكفايات على تعريف الكفاية بأنها "القدرة على التصرف بفعالية في نمط معين من الوضعيات"، وهي قدرة تستند إلى المعارف لكنها لا تختزل فيها، بل تتطلب تعبئة وإدماج مجموعة من الموارد (معارف، مهارات، مواقف) لمواجهة مشكلة ما وحلها في وضعية جديدة ومعقدة. وبهذا، كان الهدف الأسمى هو تجاوز منطق التلقين وتكديس المعارف، وتكوين مواطن قادر على التفكير النقدي، وحل المشكلات، والتكيف مع متغيرات الحياة. وكان المدخل العملي لتحقيق ذلك هو "الوضعية-المشكلة" (Situation-Problème)، وهي سياق معقد ودامج يُفترض أن المتعلم، من خلال مواجهته، يبني تعلماته ويدمجها لتنمية كفايته.
على الرغم من نبل هذه الأهداف، إلا أن تطبيق المقاربة بالكفايات في الواقع الميداني للمدرسة المغربية واجه تعثرات بنيوية عميقة. وقد أشارت العديد من الدراسات والتقارير إلى أن هذا النموذج البيداغوجي، الذي يتطلب مدرسًا ذا كفاءة عالية في هندسة الوضعيات وتدبيرها، ومتعلمين يمتلكون حدًا أدنى من الاستقلالية والدافعية، لم يجد شروط نجاحه الكاملة في سياق يتسم بالاكتظاظ، وضعف التكوين، وتراكم التعثرات لدى التلاميذ. النتيجة كانت مفارقة مؤلمة: ففي سعيها لبناء كفايات معقدة، فشلت المنظومة في ضمان تحكم نسبة كبيرة من التلاميذ حتى في الموارد الأساسية (القراءة، الكتابة، الحساب)، مما جعل بناء الكفايات أمرًا شبه مستحيل، وأدى إلى الأزمة التي يعيشها النظام التعليمي اليوم.
المبحث الثاني: تحليل جدلية التعارض والتكامل مع التعليم الصريح
للوهلة الأولى، يبدو التعارض صارخًا بين المقاربة بالكفايات والتعليم الصريح. فالأولى، في تطبيقها التقليدي المستند إلى البنائية، تتمحور حول المتعلم الذي "يبني" معرفته بنفسه، بينما الثانية تتمحور حول المدرس الذي "يقدم" المعرفة بشكل مباشر ومنظم. هذا التعارض الظاهري هو ما يغذي فكرة أن اعتماد التعليم الصريح يعني بالضرورة التخلي عن المقاربة بالكفايات. لكن قراءة أعمق للمرجعيات النظرية والوثائق الرسمية للإصلاح الجديد تكشف عن علاقة أكثر تركيبًا وتعقيدًا.
إن النقطة الجوهرية التي غالبًا ما يتم إغفالها هي أن التعليم الصريح لا يرى نفسه نقيضًا للكفايات، بل على العكس، يعتبر نفسه الوسيلة الأكثر فعالية لتحقيقها. الحجة المركزية التي يسوقها منظرو التعليم الصريح، والمستندة إلى دراسات علمية مثل دراسة روزنشاين، هي أن المتعلم لا يمكنه أن "يبني" أو "يعبئ" أو "يدمج" موارده لحل وضعية معقدة (وهو جوهر الكفاية) إذا لم يكن يمتلك هذه الموارد أصلًا وبشكل متقن ومخزن في ذاكرته طويلة المدى. بعبارة أخرى، كيف يمكن لتلميذ لا يتقن عملية القسمة (كمورد) أن يحل وضعية-مشكلة تتطلب حساب نصيب كل فرد في ميراث (كتطبيق للكفاية)؟ إن مطالبة المتعلم بحل وضعيات معقدة دون تزويده بالأدوات اللازمة بشكل صريح ومنهجي هو وصفة للفشل والإحباط، وهو ما حدث بالفعل في تطبيق المقاربة بالكفايات في المغرب.
تدعم الوثائق الرسمية للإصلاح الجديد هذا التحليل. فهي لم تعلن قط عن إلغاء المقاربة بالكفايات، بل على العكس، لا تزال تستخدم مصطلحاتها. فالتكوينات الموجهة للأساتذة تهدف إلى تمكينهم من "المهارات والكفايات اللازمة" لتنزيل المقاربات الجديدة. كما أن أدوات التتبع والتقويم المعتمدة في "مؤسسات الريادة" لا تزال تحمل اسم "دفتر تتبع الكفايات"، مما يدل على أن الكفاية ما زالت هي الأفق الذي يتم التقويم بناءً عليه.
علاوة على ذلك، يؤكد بعض الخبراء التربويين المغاربة أن العلاقة ليست علاقة إقصاء. ففي تحليلهم، "الوضعية المشكلة الدامجة لا تتعارض مع التعليم الصريح"، وأن هذا الأخير "لم يأت بديلا عن طرق التدريس السابقة وعلى رأسها التدريس بالوضعية المشكلة"، بل جاء "لتنظيم عملية التعلم والتعليم وهيكلتها من حيث الأدوار والطرق والوسائل". من هذا المنظور، يمكن النظر إلى التعليم الصريح كخطوة تمهيدية وضرورية تسبق مرحلة حل الوضعيات المعقدة، حيث يقوم بتزويد المتعلم بالموارد اللازمة بطريقة فعالة، ليصبح بعدها قادرًا على خوض غمار الوضعيات-المشكلة التي تهدف إلى تنمية الكفاية.
المبحث الثالث: استنتاج تحليلي: هل تم تنحية الكفايات أم إعادة هيكلة مسار تحقيقها؟
بناءً على ما سبق، يمكن الخلوص إلى استنتاج تحليلي دقيق: لم يتم إلغاء المقاربة بالكفايات كهدف استراتيجي نهائي للمنظومة التعليمية المغربية، بل ما تم تغييره بشكل جذري هو النموذج البيداغوجي المعتمد للوصول إلى هذه الكفايات.
إن الإصلاح الحالي يمثل نقدًا عمليًا، وإن كان غير مصرح به، للطريقة التي طُبقت بها المقاربة بالكفايات في المغرب. لقد تم الانتقال من نموذج يمكن وصفه بـ "البنائي-الاستكشافي"، الذي كان يفترض أن الكفاية تُبنى بشكل شبه تلقائي من خلال مواجهة المتعلم المباشرة مع وضعيات معقدة (نموذج "الخطوة الواحدة" الكبيرة)، إلى نموذج جديد يمكن تسميته "البنائي-المباشر". هذا النموذج الجديد يرى أن بناء الكفاية هو مسار منهجي ومتدرج (نموذج "الخطوات المتعددة")، يبدأ بالتعليم الصريح والمنهجي للموارد والمهارات الأساسية (عبر التعليم الصريح)، ومعالجة الفجوات المتراكمة (عبر "طارل")، ثم التدريب الموجه على استخدامها، وصولًا في نهاية المطاف إلى تمكين المتعلم من تعبئتها وتوظيفها بشكل مستقل ومبدع في حل وضعيات جديدة، وهو التعريف الأصلي للكفاية.
بهذا المعنى، أعاد الإصلاح الجديد تعريف العلاقة بين الموارد والكفاية. فبدلاً من اعتبارهما شيئًا واحدًا يتم بناؤه في نفس الوقت، أصبح يُنظر إلى إتقان الموارد (التعلمات الأساس) كشرط قبلي وضروري لبناء الكفاية. أصبح التعليم الصريح هو الأساس الوقائي و"طارل" هي الأساس العلاجي اللذان يضمنان امتلاك المتعلم للموارد اللازمة. وبعد امتلاك هذه الموارد، يصبح الحديث عن تنمية الكفايات عبر وضعيات دامجة أمرًا ممكنًا وواقعيًا.
هذا التحول يمثل نضجًا في الفكر التربوي المغربي، حيث ينتقل من تبني النظريات البيداغوجية في شكلها "النقي" أو المثالي، إلى تكييفها بشكل براغماتي مع واقع القسم المغربي وإمكانياته. إنه اعتراف بأن النماذج التي تركز على المتعلم لا يمكن أن تنجح إلا إذا كان هذا المتعلم مجهزًا بالأدوات المعرفية اللازمة. وبالتالي، فإن التعليم الصريح لا يلغي الكفايات، بل يمهد الطريق لتحقيقها بشكل أكثر واقعية وفعالية.
الفصل الرابع: تقييم أولي للتجربة - بين النتائج الواعدة والتحديات المطروحة
مع انقضاء السنة الأولى من التنزيل الموسع لمشروع "مؤسسات الريادة"، بدأت تتشكل ملامح أولية لتقييم هذه التجربة الطموحة. تتأرجح الصورة بين خطاب رسمي متفائل، مدعوم بتقييمات كمية تبرز تحقيق نتائج إيجابية وغير مسبوقة، وبين واقع ميداني أكثر تعقيدًا، يرصده الخبراء والفاعلون النقابيون، ويكشف عن تحديات جسيمة على مستوى التنزيل ومقاومة من طرف الفاعلين. تقديم رؤية متوازنة لهذه التجربة يقتضي عرض كلا الوجهين: المؤشرات الواعدة التي تبشر بها الوزارة، والقراءة النقدية التي تسلط الضوء على الصعوبات والمخاطر.
المبحث الأول: المؤشرات الإيجابية لتجربة "مؤسسات الريادة" وفق التقييمات الرسمية
تقدم وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة رواية شديدة التفاؤل حول حصيلة مشروع "مؤسسات الريادة". تستند هذه الرواية إلى مجموعة من التقييمات الداخلية والخارجية التي تشير إلى نجاح ملحوظ وملموس.
أحد أبرز المؤشرات التي تستند إليها الوزارة هو تقرير تقييمي أولي كشف أن تلاميذ "مؤسسات الريادة" أظهروا تقدمًا كبيرًا في مهارات الرياضيات واللغتين العربية والفرنسية خلال شهرين فقط من تطبيق المقاربات الجديدة. وذهب التقرير إلى أن هذا التقدم يعادل استدراكًا معرفيًا يتراوح بين سنة وسنتين من التعليم بالطرق التقليدية، وهو ما اعتبر إنجازًا كبيرًا يثبت فعالية النموذج المعتمد.
وتعززت هذه النتائج بدراسة مستقلة ذات صدى دولي، أجريت بشراكة بين معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) وجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية. خلصت هذه الدراسة، التي قارنت بين عينة من مدارس الريادة ومدارس أخرى لم تشملها التجربة، إلى أن مؤشر تأثير المشروع على جودة التعلمات يضع المغرب في مراتب متقدمة عالميًا. وأوضح وزير التربية الوطنية أن المغرب حقق تحسنًا في مستوى التعلمات بمقدار 0.9 من الانحراف المعياري (écart-type)، وهي نسبة وصفها بأنها "غير مسبوقة على المستوى العالمي"، وتفوق بكثير ما تعتبره الدراسات الدولية تأثيرًا "ممتازًا" (0.4 من الانحراف المعياري).
بالإضافة إلى هذه التقييمات الكمية، تشير الوزارة إلى أن المشروع، الذي استهدف في موسمه الأول حوالي 300 ألف تلميذ في 600 مؤسسة ابتدائية، يسير في اتجاه التعميم الناجح. وتؤكد الاجتماعات التقييمية التي تُعقد على المستوى الجهوي، مثل اللقاء الذي نظمته الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين بجهة العيون الساقية الحمراء، أن التقييمات الأولية تعكس نجاح التجربة وفعاليتها، مما يفتح المجال لتوسيعها على نطاق أوسع. كما أن الوزارة لم تكتف بتقييم واحد، بل لجأت إلى أربعة تقييمات مختلفة ركز كل منها على بعد معين: تأثير "طارل" على تدارك التعثرات، حجم انخراط المدرسين، منح علامة الجودة، وأثر المشروع على جودة التعلمات. وكل هذه التقييمات، حسب المصادر الرسمية، أظهرت نتائج إيجابية.
المبحث الثاني: قراءة نقدية: تحديات التنزيل ومواقف الخبراء والنقابات التعليمية
في مقابل هذه الصورة الرسمية المشرقة، يقدم الفاعلون في الميدان والخبراء المستقلون قراءة أكثر حذرًا ونقدًا، تسلط الضوء على تحديات كبيرة قد تهدد استدامة المشروع ونجاحه على المدى الطويل.
1. تحديات لوجستية وتنظيمية:
شابت عملية تنزيل المشروع، خاصة في مرحلة توسيعه، اختلالات لوجستية وتنظيمية كبيرة. من أبرز هذه المشاكل التأخر الكبير في إنتاج وطباعة العدّة البيداغوجية، بما في ذلك الكراسات والشرائح الرقمية الخاصة بالتعليم الصريح. هذا التأخير أدى إلى إرباك كبير في انطلاق الموسم الدراسي في "مؤسسات الريادة"، ووضع المديرين والأساتذة في حيرة من أمرهم، حيث وجدوا أنفسهم بدون الأدوات اللازمة للعمل لأسابيع. كما أثار فرض دورات تكوينية على الأساتذة في أوقات غير مناسبة، مثل فترة العطلة الصيفية أو بعد توقيع محاضر الخروج، استياءً كبيرًا في صفوف الشغيلة التعليمية، ودفع النقابات إلى الدعوة لمقاطعتها، معتبرة إياها "مهينة" وتتم "خارج الإطار القانوني والزمني".
2. انتقادات الخبراء التربويين (عبد الناصر ناجي نموذجًا):
قدم الخبير التربوي عبد الناصر ناجي، وهو صوت مؤثر في الساحة التعليمية المغربية، تحليلات نقدية عميقة لمشروع "مؤسسات الريادة"، محذرًا من عدة انزلاقات منهجية.
- الرؤية المختزلة للإصلاح: يرى ناجي أن الحكومة، من منطلق "البراغماتية السياسية"، فضلت تجريب "وصفة تربوية جاهزة" على حساب التطبيق الشامل والمنسجم للقانون الإطار 51.17 للتربية والتكوين والرؤية الاستراتيجية 2015-2030. هذا الاختزال يهدد استمرارية الإصلاح، حيث قد تتخلى عنه أي حكومة قادمة لتجريب وصفتها الخاصة.
- تقييد إبداع المدرس: ينتقد ناجي بشدة الإفراط في "التنميط" من خلال فرض كراسات وشرائح جاهزة وموحدة، معتبرًا أن ذلك "يتناقض بشكل صارخ مع ما دعت إليه الرؤية الاستراتيجية من استقلالية بيداغوجية للمدرس". ويرى أن هذا التوجه يقيد الابتكار والإبداع، ويعيق تطوير الممارسات الفضلى، ويهمش التلاميذ المتفوقين الذين قد لا يحتاجون إلى هذا المستوى من التوجيه المباشر.
- المرجعيات العلمية المشكوك فيها: يشير ناجي إلى أن الاعتماد شبه الحصري على مرجعيات علمية معينة، مثل أعمال الباحث جون هاتي حول "التعلم المرئي" (Apprentissage Visible)، هو أمر مثير للتساؤل، حيث أن هذه الأعمال هي نفسها محل نقد وجدل في الأوساط العلمية الدولية، ويصفها بعض الباحثين بأنها "علم زائف" أو "سوء تصرف إحصائي".
3. مواقف النقابات التعليمية:
كان موقف النقابات التعليمية الأكثر تمثيلية في المغرب شديد السلبية تجاه مشروع "مؤسسات الريادة". ففي بيان مشترك، أعلنت النقابات الخمس عن "رفضها القاطع لما يسمى بـ'مدارس الريادة'". وتستند هذه المعارضة إلى عدة أسباب:
غياب المقاربة التشاركية: تنتقد النقابات بشدة ما تعتبره فرضًا للمشروع بشكل فوقي وانفرادي من طرف الوزارة، دون إشراك حقيقي للفاعلين التربويين في بلورته وتصميمه، مما يجعله مشروعًا غريبًا عن الميدان.
- استهداف دور الأستاذ: ترى النقابات أن النموذج المعتمد، خاصة من خلال الأدوات الجاهزة، يهدف إلى "استهداف مباشر لأدوار الأستاذ داخل الفصل"، وتقليص هامش حريته المهنية.
- الدعوة إلى المقاطعة: نتيجة لهذه القراءة، دعت النقابات بشكل صريح ومنسق نساء ورجال التعليم إلى مقاطعة جميع التكوينات والأنشطة المتعلقة بمشروع "مؤسسات الريادة".
- ربط الإصلاح بالملف المطلبي: غالبًا ما تضع النقابات موقفها من الإصلاح البيداغوجي في سياق أوسع من التوتر الاجتماعي مع الحكومة، حيث تربط انخراطها في أي إصلاح بتحقيق مطالبها المتعلقة بالنظام الأساسي، والزيادة في الأجور، وتحسين ظروف العمل، مما يجعل من الصعب فصل النقاش البيداغوجي عن السياق النقابي والسياسي العام.
إن هذه الفجوة الكبيرة بين الرواية الرسمية المبنية على النجاح الكمي، والواقع الميداني الذي يتسم بالتحديات والمقاومة، ترسم صورة "إصلاحين" متوازيين. فالنجاح الذي تم تحقيقه في المرحلة التجريبية المحدودة، والذي يمكن تفسير جزء منه على الأقل بـ"تأثير هوثورن" (effet Hawthorne) حيث يتحسن أداء المشاركين لمجرد علمهم بأنهم تحت الملاحظة ويتلقون اهتمامًا خاصًا، قد لا يكون قابلًا للتعميم بنفس القدر من النجاح. إن المعارضة الشديدة من النقابات، والتحديات اللوجستية، والمخاوف التي عبر عنها الخبراء، كلها عوامل تشكل تهديدًا حقيقيًا لنجاح المشروع في مرحلة التوسيع الوطني، حيث ستكون الموارد أقل تركيزًا، وسيتلاشى بريق "المشروع الرائد" ليصبح هو الواقع اليومي العادي.
خاتمة وتوصيات: نحو نموذج بيداغوجي مغربي متكامل ومستدام
في ختام هذا التحليل، يتضح أن التحول البيداغوجي الذي يشهده المغرب، والمتمثل في اعتماد نموذج يدمج بين مقاربة "طارل" العلاجية والتعليم الصريح الوقائي، هو استجابة ضرورية ومنطقية لأزمة تعلمات عميقة وموثقة. لقد كشف البحث أن هذا التحول لا يمثل إلغاءً للمقاربة بالكفايات كهدف استراتيجي نهائي، بل هو بالأحرى إعادة هيكلة جذرية للمسار البيداغوجي المؤدي إليها، حيث تم الانتقال من نموذج استكشافي أثبت محدوديته في السياق المغربي، إلى نموذج أكثر مباشرة وهيكلة وواقعية، يضع إتقان الموارد والمهارات الأساسية كشرط قبلي لبناء الكفايات المعقدة.
ومع ذلك، أبرز التحليل وجود فجوة مقلقة بين النجاحات الكمية الواعدة التي تعلن عنها الوزارة في إطار تجربة "مؤسسات الريادة"، والتحديات الجسيمة التي تواجه عملية التنزيل على أرض الواقع. وتشمل هذه التحديات صعوبات لوجستية، ومقاومة قوية من النقابات التعليمية، وانتقادات منهجية وفلسفية من طرف خبراء التربية، مما يضع استدامة هذا الإصلاح ونجاحه على المدى الطويل موضع تساؤل.
لضمان تجاوز هذه التحديات وتحويل هذا المنعطف الإصلاحي إلى نجاح حقيقي ومستدام، لا بد من تبني مقاربة أكثر شمولية وتشاركية. وبناءً على التحليل المقدم، يمكن صياغة التوصيات التالية:
تعزيز المقاربة التشاركية وتجاوز منطق الفرض: إن نجاح أي إصلاح تربوي رهين بتملك الفاعلين الميدانيين له. يتوجب على الوزارة الانتقال من منطق التنزيل العمودي إلى حوار حقيقي ومؤسساتي مع النقابات التعليمية والخبراء والأساتذة. لا ينبغي أن يقتصر هذا الحوار على الجوانب التقنية، بل يجب أن يشمل فلسفة الإصلاح وأهدافه، بهدف بناء إجماع وطني حول النموذج البيداغوجي وتكييفه ليصبح مشروعًا مشتركًا، مما يقلل من المقاومة ويزيد من فرص النجاح.
الموازنة بين التنميط والاستقلالية البيداغوجية: بينما يمكن للأدوات الموحدة (مثل الشرائح الرقمية) أن تكون مفيدة في مرحلة الانطلاق لضمان حد أدنى من الجودة، يجب أن يكون الهدف على المدى المتوسط هو التحرر التدريجي منها. ينبغي العمل على تطوير أطر مرجعية وطنية مرنة تحدد المبادئ والكفايات المستهدفة، مع ترك هامش واسع للاجتهاد والإبداع والتكييف للأستاذ داخل الفصل، بناءً على الحاجات الفعلية لتلاميذه. إن تمكين الأستاذ وتثمين خبرته هو الاستثمار الأكثر استدامة.
الاستثمار في تكوين مستمر نوعي وعميق: يجب أن يتجاوز التكوين المستمر الدورات التدريبية السريعة التي تركز على "كيفية تطبيق" الأدوات الجاهزة. لا بد من الاستثمار في برامج تكوين عميقة ومستمرة تركز على الفلسفة الكامنة وراء المقاربات الجديدة، وعلى الأسس النظرية المستمدة من علم النفس المعرفي وعلوم التربية. هذا التكوين النوعي هو الذي سيمكن الأساتذة من فهم "لماذا" يفعلون ما يفعلون، وبالتالي سيمنحهم القدرة على تكييف الممارسات وتطويرها بشكل مستقل.
إعادة ربط الإصلاح بالإطار القانوني لضمان الاستمرارية: لضمان عدم تحول مشروع "مؤسسات الريادة" إلى مجرد تجربة عابرة مرتبطة بعهدة حكومية معينة، من الضروري ربطه بشكل صريح وواضح بمقتضيات القانون الإطار 51.17 للتربية والتكوين والبحث العلمي. هذا الربط القانوني والمؤسساتي سيمنح الإصلاح الحماية اللازمة من التقلبات السياسية، ويضمن استمراريته واستدامته على المدى الطويل.
تطوير آليات تقييم شاملة ومتعددة الأبعاد: يجب ألا يقتصر تقييم نجاح الإصلاح على قياس التحصيل الدراسي في المواد الأساسية فقط. من الضروري تطوير وتطبيق آليات تقييم شاملة تقيس أيضًا الأثر على المهارات العليا، مثل التفكير النقدي، والإبداع، وحل المشكلات، بالإضافة إلى قياس متغيرات أخرى لا تقل أهمية، كدافعية المتعلمين، ورضا الأطر التربوية، والمناخ المدرسي العام. إن التقييم الشامل هو وحده الكفيل بتقديم صورة حقيقية عن مدى تحقيق الإصلاح لأهدافه في بناء "مدرسة الجودة للجميع".
إن الطريق نحو إصلاح حقيقي للمدرسة المغربية لا يزال طويلاً وشاقًا، لكن التحول البيداغوجي الحالي، رغم تحدياته، يمثل فرصة تاريخية لمعالجة أزمة التعلمات من جذورها. ويبقى نجاحه مرهونًا بالقدرة على بناء نموذج بيداغوجي مغربي أصيل، يجمع بين فعالية الممارسات الدولية المثبتة، وخصوصية السياق الوطني، والأهم من ذلك، الثقة في الفاعل التربوي وتمكينه.
إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة
Tags
إضاءات تربوية