قراءة في حدود مسؤولية الدولة عن الحوادث المدرسية: بين الخطأ المرفقي، والتزام شركة التأمين، وأفق مساءلة الموظف



تعتبر مسؤولية الدولة عن الأضرار اللاحقة بتلاميذ المؤسسات التعليمية العمومية من أدق إشكاليات القانون الإداري وأكثرها تجسيداً لفلسفة دولة القانون التي تضع حماية الأفراد في صلب اهتماماتها. وقد خص المشرع المغربي هذه المسؤولية بنص خاص، هو الفصل 85 مكرر من قانون الالتزامات والعقود، مؤسساً إياها على فكرة الخطأ الواجب الإثبات. إلا أن القضاء الإداري، بوصفه حارساً للمشروعية وموازناً بين امتيازات السلطة وحقوق الأفراد، ما فتئ يطور من مفاهيمه وتأويلاته لهذا النص بما يضمن حماية فعالة للطرف الضعيف في العلاقة، وهو التلميذ.

والقرار الذي بين أيدينا، الصادر عن محكمة النقض، الغرفة الإدارية، بتاريخ 16 أبريل 2018 في الملف الإداري عدد 2017/1/4/2450، يمثل حلقة مهمة في هذا المسار الاجتهادي.

وتتلخص وقائع النازلة في أن تلميذاً بإحدى الثانويات بمدينة آسفي تعرض بتاريخ 5 دجنبر 2008 لحادثة تسببت له في كسر برجله اليسرى، وذلك نتيجة تدافع التلاميذ وازدحامهم أثناء محاولتهم ولوج الفصل في غياب الأستاذ المشرف. وبعد مسطرة ابتدائية واستئنافية انتهت إلى تحميل الدولة المسؤولية وتعويض التلميذ المتضرر، طعنت شركة التأمين بالنقض في القرار الاستئنافي الصادر عن إدارية مراكش بتاريخ 17 مارس 2016.

وعليه، تتعدد الإشكاليات القانونية التي يثيرها هذا القرار، فيمكن صياغتها على النحو التالي: إلى أي حد يمكن لشركة التأمين الدفع بمقتضيات عقدها مع الدولة في مواجهة الضحية؟ وما هي معالم الخطأ المرفقي الموجب لمسؤولية الإدارة في مجال الرقابة المدرسية؟ وأخيراً، كيف يطبق القضاء قواعد التقادم في هذا المجال، وما هي الآفاق التي يفتحها تكييف الخطأ على مستوى مساءلة الموظفين؟

للإحاطة بهذه الإشكاليات، سنتناول في مبحث أول فصل المحكمة بين نطاقي المسؤولية التقصيرية والتغطية التأمينية. على أن نخصص المبحث الثاني لتكريسها للمفهوم الواسع للخطأ المرفقي، قبل أن نختم في مبحث ثالث بتحليل التطبيق المرن لقواعد التقادم وأفق دعوى الرجوع على الموظف.

تحليل ونقد القرار

المبحث الأول: الفصل بين نطاقي المسؤولية التقصيرية والتغطية التأمينية

من أهم الدفوعات التي أثارتها شركة التأمين الطاعنة، الدفع بعدم إدلاء الضحية بما يثبت أداءه لقسط التأمين، معتبرة أن هذا الأداء شرط أساسي للاستفادة من الضمان. وهذا الدفع، وإن بدا منطقياً من زاوية تعاقدية بحتة، إلا أن محكمة النقض رفضته بحجة قانونية سليمة ورصينة، فاصلةً بذلك بشكل قاطع بين علاقتين قانونيتين مختلفتين.

فقد أوضحت المحكمة في تعليلها أن مقاضاة الدولة في إطار الفصل 85 مكرر للحصول على تعويض عن ضرر ناتج عن خطأ الإدارة، لا تلزم الضحية بأن يكون قد أدى قسط التأمين. فأساس الدعوى هنا هو المسؤولية التقصيرية للدولة عن خطئها المرفقي، وهي مسؤولية قانونية مباشرة بين الدولة والضحية. أما مسألة أداء قسط التأمين فهي تتعلق بالمسؤولية العقدية بين التلميذ (عبر المؤسسة) وشركة التأمين، وهي علاقة موازية لا تؤثر في قيام الأولى.

وبتعبير آخر، أقامت المحكمة تمييزاً جوهرياً بين رابطتين:

  • رابطة الضحية بالدولة: مصدرها القانون (الفصل 85 مكرر)، وأساسها الخطأ المرفقي، وغايتها جبر الضرر.
  • رابطة الدولة بشركة التأمين: مصدرها عقد تأمين المسؤولية المدنية، وأساسها تغطية المخاطر، وغايتها حلول شركة التأمين محل الدولة في الأداء.

وعليه، فبمجرد ثبوت الخطأ المرفقي، تقوم مسؤولية الدولة، ويحكم عليها بالتعويض. وبعد ذلك فقط، وبموجب عقد التأمين الذي يربطها بشركتها، تحل هذه الأخيرة محلها في الأداء. فلا يجوز للمؤمِّن أن يواجه الضحية بدفوع يستمدها من عقده مع المؤمَّن له (الدولة)، لأن الضحية طرف أجنبي عن هذا العقد. إن هذا التحليل القانوني الدقيق يحمي حق الضحية من أن يتأثر باعتبارات إجرائية أو تعاقدية لا يد له فيها، ويكرس استقلالية نظام المسؤولية الإدارية عن آليات تغطيتها.

المبحث الثاني: تكريس المفهوم الواسع للخطأ المرفقي المستوجب للمسؤولية

لقد دفعت الطاعنة بانتفاء عنصر الخطأ لدى المشرفين التربويين، معتبرة أن المطلوب لم يثبت هذا الخطأ الذي يشترطه الفصل 85 مكرر. غير أن محكمة النقض، بتأييدها للقرار المطعون فيه، رفضت هذا الدفع، وكرست بذلك توجهاً قضائياً راسخاً يميل إلى تفسير الخطأ المرفقي في هذا المجال تفسيراً واسعاً ومرناً.

فقد اعتبرت المحكمة أن ثبوت مادية الحادثة، ووقوعها في سياق تدافع التلاميذ "في غياب المسؤول التربوي عن التنظيم والمراقبة"، يشكل في حد ذاته دليلاً كافياً على "وجود تقصير في الإشراف والمراقبة وإهمال من جانب الإدارة التربوية"، وهو ما اعتبرته "السبب الرئيسي في حصول الفعل الضار".

إن محكمة النقض هنا لا تطلب من الضحية إثبات فعل إيجابي محدد، بل تكتفي بإثبات واقعة سلبية تتمثل في "الغياب" أو "التقصير في التنظيم". وبهذا، تنقل العبء من إثبات "خطأ شخصي" يمكن نسبته لموظف معين، إلى إثبات "خطأ مرفقي" ينسب إلى المرفق العام ككل بسبب سوء تنظيمه. وهذا التوجه ينسجم تماماً مع روح الفصل 85 مكرر، الذي وإن أبقى على أساس المسؤولية الخطئية، إلا أن القضاء الإداري قد عمل على تلطيف حدتها، مقيماً نوعاً من "الخطأ المفترض" في جانب الإدارة كلما وقع ضرر للتلميذ داخل الحرم المدرسي.

المبحث الثالث: التطبيق المرن لقواعد التقادم وأفق دعوى الرجوع

لم تقف محكمة النقض عند حدود تكييف الخطأ، بل امتد تحليلها ليشمل الدفع المتعلق بالتقادم. فقد تمسكت الطاعنة بأن الدعوى رُفعت بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على تاريخ الحادثة، مما يجعلها متقادمة.

إلا أن المحكمة، في ردها، اعتبرت أن قيام الضحية برفع دعوى أولى بتاريخ 5 يوليوز 2011، أي قبل انصرام أجل التقادم، كان له أثر قاطع للتقادم، حتى وإن انتهت تلك الدعوى الأولى إلى حكم بعدم القبول لسبب شكلي. وهذا التحليل سليم قانوناً، إذ يجد أساسه في الفصل 381 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص على أن المطالبة القضائية تقطع التقادم. وبذلك، تكون المحكمة قد طبقت القانون تطبيقاً سليماً، وكرست توجهاً يحمي المتقاضي حسن النية من الآثار القاسية للشكلية المفرطة.

مسألة تداخل الخطأ المرفقي البسيط والخطأ الشخصي:

القضاء، سواء في نازلة الحال أو في قضايا مشابهة، يكتفي عادة بإثبات الخطأ المرفقي ليحكم بالتعويض لفائدة الضحية. والسبب في ذلك هو تحقيق هدف أساسي وعاجل: جبر ضرر الضحية. فالقاضي الإداري يعلم أن الإدارة (الدولة) هي الطرف المليء القادر على دفع التعويض فوراً، لذلك يبحث عن أيسر السبل القانونية لتحميلها المسؤولية، وهذا السبيل هو الخطأ المرفقي المتمثل في سوء تنظيم المرفق.

ولكن، هذا لا يعني أن الخطأ الشخصي للموظفين (الأستاذ أو الحارس العام) منعدم بالضرورة. فهنا يكمن عنصر تداخل الأخطاء:

  • الخطأ المرفقي: هو ما أثبتته المحكمة. ويتمثل في ترك التلاميذ دون رقابة في وقت ومكان يتطلبان اليقظة. هذا خطأ في التنظيم ينسب للإدارة ككل.

  • الخطأ الشخصي: هو الخطأ الذي يمكن فصله عن الوظيفة. في حالتنا هذه، يمكن أن يتحقق إذا كان غياب الأستاذ أو الحارس العام يتسم بـ"جسامة استثنائية" تكشف عن إهمال شخصي فادح.
مثال: لو ثبت من خلال تحقيق إداري أن الأستاذ المكلف بالحراسة قد غادر المؤسسة تماماً لشؤونه الخاصة دون إذن، أو أنه تكررت منه عادة ترك التلاميذ دون رقابة رغم تنبيهه، فإن هذا الإهمال الجسيم يرقى من مجرد خطأ عادي إلى خطأ شخصي لأنه منفصل عن متطلبات الوظيفة العادية.

عندما يجتمع الخطأ المرفقي (سوء التنظيم) مع الخطأ الشخصي للموظف (الإهمال الجسيم)، نكون أمام خطأ مزدوج. وفي هذه الحالة، ومن أجل حماية الضحية، يسمح لها القضاء بمقاضاة الإدارة وحدها والحصول منها على كامل التعويض.

دعوى الرجوع: أداة الإدارة لمحاسبة الموظف المخطئ


بعد أن تقوم الإدارة (الدولة) بأداء كامل مبلغ التعويض للضحية بناءً على حكم قضائي، يفتح أمامها باب قانوني لمحاسبة الموظف الذي تسبب بخطئه الشخصي في تحميلها هذه المسؤولية. هذه الأداة هي دعوى الرجوع.

  • الأساس القانوني: تجد هذه الدعوى أساسها في القواعد العامة للمسؤولية، خاصة الفصل 80 من قانون الالتزامات والعقود الذي يسمح لمن أدى ديناً كان غيره ملزماً به كلياً أو جزئياً بأن يرجع على ذلك الغير.
  • المسطرة المتبعة: هي دعوى قضائية ترفعها الدولة (بواسطة الوكيل القضائي للمملكة) ضد الموظف المخطئ أمام المحكمة الإدارية.
  • تحديد دور القاضي: في هذه الدعوى، يقوم القاضي الإداري بتحديد نسبة المسؤولية بين الطرفين:
    ما هي نسبة الخطأ التي يتحملها المرفق بسبب سوء تنظيمه؟ (مثلاً: عدم وجود عدد كافٍ من الحراس).
    وما هي نسبة الخطأ التي يتحملها الموظف شخصياً بسبب إهماله الجسيم؟
  • النتيجة: بناءً على هذا التوزيع، يحكم القاضي على الموظف بأن يرد للدولة الجزء من التعويض الذي يتناسب مع نسبة خطئه الشخصي. قد تكون هذه النسبة 50%، 70%، أو حتى 100% إذا كان الخطأ المرفقي تافهاً والخطأ الشخصي هو السبب الحاسم في وقوع الضرر.

وفي ختام هذا التحليل، يمكن القول إن قرار محكمة النقض يمثل لبنة إضافية في صرح الاجتهاد القضائي الرامي إلى أنسنة القانون الإداري. فعبر فصله الدقيق بين المسؤولية والتأمين، وتوسيعه لمفهوم الخطأ المرفقي، وتأويله المرن لقواعد التقادم، تكون أعلى هيئة قضائية قد أرسلت رسالة واضحة مفادها أن مسؤولية الإدارة عن سلامة مرتفقيها هي مسؤولية مشددة، وأن القواعد الإجرائية وُجدت لتكون جسراً إلى الحق.

ويبقى هذا القرار، بصرامته المنهجية، يشكل ضمانة حقيقية للمتقاضين، ويساهم في ترسيخ ثقافة المسؤولية لدى المرافق العمومية. ويفتح في ذات الوقت، من خلال تكييفه للخطأ، أفقاً لتفعيل آليات المحاسبة الداخلية عبر دعوى الرجوع، لكي لا تظل مسؤولية حماية أبنائنا في المدارس مجرد عبء مالي على الخزينة العامة، بل واجباً مهنياً وأخلاقياً يقع على عاتق كل فرد داخل المنظومة التربوية.

إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة

أحدث أقدم

نموذج الاتصال