مقدمة
تعتبر مسؤولية الدولة عن الحوادث التي تلحق التلاميذ داخل أسوار المؤسسات التعليمية من الإشكاليات القانونية التي تجمع بين البعد الإنساني العميق والتعقيد المسطري والموضوعي. فهي تضع على محك الاختبار واجب الدولة في الحماية والرقابة، وتثير في الآن ذاته تساؤلات دقيقة حول طبيعة الخطأ المرفقي، وحدود الضمان، والسلطة التقديرية للقاضي في جبر الضرر. وفي هذا السياق، لا يمكن فهم التوجه القضائي المغربي من خلال قرار معزول، بل عبر قراءة تركيبية لمجموعة من القرارات الصادرة عن محكمة النقض، التي تعمل كبوصلة توجه قضاة الموضوع وتوحد الاجتهاد القضائي.
إن القرارات التي بين أيدينا، وهي القرار عدد 234 الصادر بتاريخ 6 مارس 2014 في الملف الإداري 2012/2/4/1353، والقرار عدد 1/591 الصادر بتاريخ 31 ماي 2018 في الملف الإداري 2016/1/4/185، إضافة إلى القرارين المتعلقين بالاختصاص النوعي (عدد 1/256 بتاريخ 9 مارس 2023 وعدد 235 بتاريخ 1 مارس 2018)، تشكل مجتمعةً بانوراما قضائية غنية تكشف عن ترسيخ مبادئ أساسية وتوضح فروقات دقيقة في مقاربة قاضي النقض لمختلف جوانب النزاع.
ففي مجملها، تدور وقائع هذه القضايا حول السيناريو الكلاسيكي: تلميذ يتعرض لحادثة داخل مؤسسة تعليمية عمومية، فيتقدم وليه بدعوى ضد وزارة التربية الوطنية للمطالبة بالتعويض، لتدخل شركة التأمين كطرف في النزاع، فتثار دفوعات تتعلق بالاختصاص القضائي، وبحدود الضمان المتفق عليه في عقد التأمين، وبمدى سلطة القاضي في تحديد مبلغ التعويض.
وعليه، فإن الإشكالية المحورية التي تطرحها هذه القرارات مجتمعة تتجاوز مجرد تحديد المسؤول، لتتعمق في سؤال جوهري: ما هي حدود السلطة القضائية في منازعات الحوادث المدرسية، وكيف توازن محكمة النقض بين ضرورة حماية الضحية عبر تعويضه تعويضاً كاملاً وعادلاً، وبين إلزامية احترام المقتضيات التعاقدية الصارمة التي تربط الإدارة بشركات التأمين، بعد أن حسمت بشكل قاطع في هوية القاضي المختص؟
للإحاطة بهذه الإشكالية، سنتناول في مبحث أول، المبدأ التأسيسي الذي كَرّسته محكمة النقض بشكل لا رجعة فيه، وهو الاختصاص المطلق للقضاء الإداري. على أن نخصص المبحث الثاني، لتحليل التوتر الخلاق في فقه قضاء محكمة النقض بين حماية الضحية من خلال توسيع نطاق الضمان، وتقديس العقد من خلال تقييد سلطة القاضي في تقدير التعويض، ثم مبجث ثالث يوضح بدقة الخط الفاصل بين مسؤولية الدولة ككل، والمسؤولية الشخصية التي قد تقع على عاتق الأستاذ أو المدير.
المبحث الأول: التكريس الحاسم للاختصاص النوعي للقضاء الإداري
إن أول ما يسترعي الانتباه في قراءة هذه القرارات هو الحسم القضائي المطلق لمسألة الاختصاص النوعي. فمن خلال القرارين عدد 1/256 لسنة 2023 و235 لسنة 2018، تضع محكمة النقض حداً لأي تردد قد يقع فيه قضاة الموضوع، مرسخة قاعدة لا تقبل الجدال.
شرح موقف المحكمة: المسؤولية عن نشاط مرفق عام
لقد بنت محكمة النقض موقفها على منطق قانوني صارم ومؤسس. ففي تعليلها، اعتبرت أن "الدعوى تهدف إلى تحميل المؤسسة التعليمية العمومية مسؤولية الحادثة المدرسية... وبالتالي فهي تندرج ضمن دعاوى التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام التي تختص نوعيا بالبت فيها المحاكم الإدارية". هذا التعليل، وإن كان مقتضباً، فإنه يحمل في طياته جوهر القانون الإداري المغربي.
التأصيل والنقد: تطبيق سليم لروح القانون المحدث للمحاكم الإدارية
إن هذا التوجه يجد سنده القانوني المباشر والصريح في المادة 8 من القانون رقم 41.90 المحدث للمحاكم الإدارية، التي تمنح هذه المحاكم الاختصاص الأصيل للنظر في "دعاوى التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام". وتكييف محكمة النقض للحادثة المدرسية على أنها ضرر ناتج عن "نشاط" مرفق التعليم العمومي هو تكييف سليم ومنطقي.
فالدولة، ممثلة في وزارة التربية الوطنية، عندما تستقبل التلاميذ في مؤسساتها، فإنها تقوم بنشاط مرفقي حيوي، وينشأ عن هذا النشاط التزام قانوني بضمان سلامتهم وحمايتهم. والإخلال بهذا الالتزام، الذي يفترض "خطأ مرفقياً" في الرقابة والتنظيم، هو أساس المسؤولية الإدارية.
وقد جانب الصواب تماماً الدفع الذي أثير في إحدى القضايا بأن الفصل 85 مكرر من قانون الالتزامات والعقود يجعل الاختصاص للمحاكم العادية. فهذا الفصل، الذي يتحدث عن مسؤولية المعلمين وموظفي الشبيبة والرياضة، ينظم أساس المسؤولية الموضوعية ويقرر حلول الدولة محل موظفيها، لكنه لا يحدد أبداً الجهة القضائية المختصة. والجهة المختصة، متى كانت الدولة طرفاً في نزاع ناتج عن نشاط مرفقي، هي القضاء الإداري بلا منازع.
إن هذا التكريس للاختصاص الإداري ليس مجرد مسألة شكلية، بل له آثار عميقة، فهو يضمن أن القاضي الذي سينظر في النزاع هو قاضٍ متخصص، يدرك طبيعة المرفق العام ويفهم نظريات الخطأ المرفقي والمخاطر، مما يضمن تطبيقاً أعمق وأكثر عدالة لقواعد المسؤولية الإدارية.
المبحث الثاني: تقدير التعويض بين توسيع نطاق الضمان وتقديس بنود العقد
إذا كان مبدأ الاختصاص قد حُسم، فإن الإشكالية الحقيقية تظهر عند انتقالنا من سؤال "من يحكم؟" إلى سؤال "بماذا يحكم؟". هنا، تكشف قرارات محكمة النقض عن حركة فكرية دقيقة، تتأرجح بين مبدأين كبيرين: ضرورة حماية الضحية بتعويض كامل، وضرورة احترام العقد كقانون بين أطرافه.
المطلب الأول: حماية الضحية عبر التفسير الواسع لنطاق الضمان
يتجلى هذا التوجه بوضوح في القرار عدد 234 لسنة 2014، الذي عالج إشكالية "تفاقم الضرر". في هذه النازلة، دفعت شركة التأمين بأنها أدت التعويض للضحية وأبرأت ذمتها بموجب وصل إبراء، وبالتالي لا يمكن مطالبتها بتعويض جديد عن تفاقم الضرر.
لقد رفضت محكمة النقض هذا الدفع بمنطق قانوني وإنساني عميق. فقد اعتبرت أن الإبراء الذي وقعه ولي أمر الضحية لا يمكن أن تمتد آثاره إلا للضرر المعلوم والمحقق وقت التوقيع. أما تفاقم الضرر، الذي هو بطبيعته ضرر مستقبلي وغير معلوم، فلا يمكن التنازل عنه. وبتعبيرها الدقيق "لا يمكن التنازل عن غير معلوم"، تكون المحكمة قد نحّت جانباً التطبيق الحرفي للفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود، لتطبق روح القانون ومبادئ العدالة التي تقتضي أن التعويض يجب أن يكون جابراً لكل الضرر، المعلوم منه والمستقبلي المحقق.
وفي نفس القرار، رفضت المحكمة الدفع المتعلق بسقف الضمان، معللة بأنه "لا يوجد أي اتفاق على سقف الضمان وكذلك من البروتوكول المدرسي". هذا التعليل، وإن كان مرتبطاً بوقائع تلك القضية، فإنه يكشف عن نزعة قضائية تميل، عند وجود أي غموض في العقد، إلى تفسيره لصالح الطرف الضعيف (الضحية) وضد الطرف القوي (شركة التأمين)، وتلزم المؤمنة بالتعويض الكامل مع حفظ حقها في الرجوع على المؤمن لها.
المطلب الثاني: تقييد السلطة التقديرية للقاضي باحترام بنود العقد الصريحة
في مقابل التوجه الحمائي السابق، يأتي القرار عدد 1/591 لسنة 2018 ليضع كابحاً قوياً للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع، ويعيد لمبدأ "العقد شريعة المتعاقدين" قوته المطلقة، متى كانت بنوده واضحة ودقيقة.
في هذه النازلة، قضت محكمة الاستئناف الإدارية بتعويض قدره 25.000 درهم، معتبرة إياه "مناسباً وملائماً" للضرر، متجاهلةً البند 12 من اتفاقية الضمان المدرسي الذي يحدد التعويض عن العجز الدائم بشكل حسابي دقيق (800 درهم لكل نقطة عجز).
وهنا، كان موقف محكمة النقض حاسماً وقاطعاً. لقد نقضت القرار الاستئنافي، ليس لأن التعويض غير مناسب، بل لأن المحكمة تجاهلت تطبيق عقد واضح وصريح. فاعتبرت أن "اتفاقية الضمان المدرسي التي تربطها بوزارة التربية الوطنية هي الواجبة التطبيق... ومحكمة الاستئناف بإعراضها عن البت في النازلة على النحو المذكور، تكون قد جردت قرارها من أي أساس وعللته تعليلاً فاسداً يوازي انعدامه".
هذا القرار هو تطبيق صارم لمقتضيات الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود، الذي يجعل من الالتزامات التعاقدية الصحيحة قانوناً بين منشئيها. فمحكمة النقض هنا ترسل رسالة واضحة لقضاة الموضوع: دوركم هو تطبيق العقد، لا إعادة كتابته أو تعديله بناء على شعوركم بالإنصاف. فمتى كانت بنود التعويض واضحة ومحددة، فلا مجال للسلطة التقديرية.
المبحث الثالث: ترسيم حدود المسؤولية - التمييز الدقيق بين الخطأ المرفقي والخطأ الشخصي للفاعل التربوي
إذا كانت المباحث السابقة قد حسمت في هوية القاضي المختص ورسمت معالم تقدير التعويض، فإن سؤالاً جوهرياً وعملياً يبقى عالقاً في ذهن كل أستاذ ومدير: متى تكون الدولة هي الدرع الذي يحميني ويتحمل المسؤولية عني، ومتى أجد نفسي وحيداً في مواجهة القضاء، مسؤولاً من مالي الخاص عن ضرر لحق بالتلميذ؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تكمن في نظرية قضائية دقيقة ابتدعها القضاء الإداري، وهي التمييز بين الخطأ المرفقي والخطأ الشخصي.
المطلب الأول: المبدأ العام - افتراض الخطأ المرفقي في الحوادث المدرسية
إن القاعدة الأصل والمبدأ العام الذي استقر عليه القضاء الإداري المغربي، تماشياً مع نظيره الفرنسي، هو أن الأضرار الناتجة عن الحوادث المدرسية العادية (كسقوط تلميذ في الساحة، أو شجار بين تلميذين، أو إصابة أثناء حصة التربية البدنية) تُكيّف على أنها ناتجة عن خطأ مرفقي.
التأصيل والتحليل:
أساس هذا التكييف ليس البحث عن خطأ موظف بعينه، بل هو الإقرار بأن مرفق التعليم، بطبيعته، يخلق مخاطر. فوجود عدد كبير من الأطفال في مكان واحد، بحيويتهم واندفاعهم، يولد بطبيعته احتمال وقوع حوادث. وبالتالي، فإن الدولة عندما تدير هذا المرفق، فإنها تتحمل تبعة هذه المخاطر.
الخطأ المرفقي هنا لا ينسب لشخص الأستاذ الحارس أو المدير، بل ينسب للمرفق ككل، ويأخذ أحد مظهرين:
- سوء تنظيم المرفق: كعدم وجود عدد كافٍ من الحراس في ساحة مكتظة، أو وجود حفر خطيرة في الملعب، أو تكليف أستاذ واحد بحراسة عدد يفوق المعقول من التلاميذ.
- الأداء السيئ للخدمة: وهو ما يسمى بـ "الخطأ المجهول". فالقاضي لا يبحث عما إذا كان الأستاذ "سعيد" قد غفل للحظة، بل يعتبر أن مجرد وقوع الحادثة هو دليل على أن واجب الرقابة والحراسة، وهو واجب عام يقع على عاتق المرفق كله، لم يؤدَّ على الوجه الأكمل.
- النتيجة العملية: طالما أن الحادثة وقعت في سياق السير العادي للمرفق، فإن المسؤولية تقع على عاتق الدولة، ويتم التعويض من المال العام، وتكون المحكمة الإدارية هي المختصة.
المطلب الثاني: الاستثناء الصارم - حالات قيام الخطأ الشخصي
لا يلجأ القضاء إلى تكييف الخطأ على أنه خطأ شخصي إلا في حالات استثنائية صارمة، يثبت فيها أن الموظف (الأستاذ أو المدير) قد خرج بسلوكه عن نطاق ممارسة وظيفته، وتصرف كإنسان بضعفه وأهوائه، لا كفاعل في مرفق عام. وقد حدد القضاء معايير دقيقة للقول بوجود الخطأ الشخصي، أهمها:
- الخطأ المرتكب بنية الإضرار أو لغرض شخصي: عندما يكون دافع الموظف هو الانتقام الشخصي من التلميذ، أو تحقيق منفعة لا علاقة لها بالمصلحة العامة.
- الخطأ المنفصل مادياً عن الوظيفة: وهو الذي يرتكبه الموظف خارج أوقات ومكان العمل، ولا تكون له أي علاقة بالوظيفة.
- الخطأ ذو الجسامة الاستثنائية: وهذا هو المعيار الأهم في الحقل التربوي. وهو الخطأ الفادح الذي ما كان ليرتكبه موظف متوسط الحرص، والذي يكشف عن إهمال جسيم وتهور لا يمكن نسبته للسير العادي للمرفق.
مثال تطبيقي: استخدام العنف الجسدي المفرط والممنوع قانوناً، كاستعمال عصا أو أداة حادة لتأديب تلميذ مما ينتج عنه عاهة. هذا الفعل ليس مجرد خطأ في التقدير، بل هو سلوك عنيف وجسيم ينفصل تماماً عن مقتضيات الوظيفة التربوية، ويتحول إلى خطأ شخصي يسأل عنه الأستاذ شخصياً. (عصا، مسطرة حديدية، حزام، صفع متكرر، ركل، وأيضا الإهانة المتكررة والحاطة بالكرامة لتلميذ أمام زملائه، بناءً على وضعه الاجتماعي أو إعاقته أو شكله، مما يسبب له ضرراً نفسياً عميقاً)
- النتيجة العملية: إذا ثبت قيام الخطأ الشخصي، فإن الموظف هو المسؤول، والتعويض يُدفع من ماله الخاص، والدعوى تقام ضده أمام المحكمة العادية (الابتدائية) وليس الإدارية، فضلاً عن المتابعة الجنائية المحتملة.
خلاصة عملية للإطار التربوي و الإداري:
إن الخط الفاصل بين مسؤولية الدولة ومسؤوليتك الشخصية واضح ودقيق:
فأنت في حماية الدولة طالما أن فعلك، حتى لو كان خاطئاً، يبقى ضمن نطاق ممارسة مهامك العادية ولم يتسم بجسامة استثنائية.
وأنت مسؤول شخصياً عندما يتجرد فعلك من أي صفة وظيفية، ويصبح تعبيراً عن تهور شخصي أو نية سيئة، وينفصل بشكل واضح عن الأساليب والأعراف المهنية المقبولة.
وهنا يجب التنبيه إلى أنه حتى في الحالات التي يتم فيها الجمع بين الخطأين (الشخصي والمرفقي)، ويقوم الضحية بمقاضاة الدولة والحصول على تعويض منها، فإن للدولة حق الرجوع على الموظف المخطئ لاسترداد المبالغ التي دفعتها، إذا ثبت أن خطأه الشخصي كان هو السبب المباشر والأساسي في وقوع الضرر.
إن هذه القراءة التركيبية، بعد إغنائها بالتمييز بين الخطأ المرفقي والخطأ الشخصي، تكشف عن نظام قانوني متكامل ومتوازن. فمن جهة، حسمت المحكمة في أن القضاء الإداري هو الحارس الطبيعي لهذه المنازعات. ومن جهة أخرى، وفيما يتعلق بجوهر الحق، رسمت المحكمة حدوداً دقيقة لسلطة القاضي في تقدير التعويض، موازنة بين حماية الضحية وتقديس العقد.
وأخيراً، وضعت المحكمة معايير واضحة لترسيم حدود المسؤولية، جاعلة من الخطأ المرفقي هو المبدأ العام الذي يوفر الحماية اللازمة للفاعل التربوي أثناء ممارسته لمهامه، ومبقية على الخطأ الشخصي كسيف استثنائي يُشهر في وجه التجاوزات الجسيمة والأفعال المنفصلة عن صميم العمل الوظيفي.
وفي الختام، يبقى هذا الربط المتناغم لهذه المفاهيم كبناء قضائي رصين يقدم خريطة طريق واضحة لكل الأطراف، ويحقق توازناً حكيماً بين حماية التلميذ، وحماية الموظف، وحماية المال العام، واستقرار الالتزامات التعاقدية.
إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة
