قراءة في قرار محكمة النقض عدد 478: السلطة التقديرية للإدارة في تدبير الفائض والخصاص بين موجبات المصلحة العامة وضمانات الاستقرار المهني للموظف


تعتبر مسألة تدبير الموارد البشرية داخل الإدارة العمومية، وخصوصاً في قطاع حيوي كالتربية الوطنية، من أعقد الممارسات الإدارية وأكثرها إثارة للمنازعات القضائية. فهي تضع مبدأين أساسيين على طرفي نقيض: من جهة، ضرورة تمتع الإدارة بسلطة تقديرية واسعة تمكنها من إعادة نشر موظفيها بما يضمن استمرارية المرفق العام وحسن سيره، ومن جهة أخرى، حق الموظف في قدر من الاستقرار المهني والاجتماعي الذي يشكل ضمانة أساسية من ضمانات الوظيفة العمومية.

وفي هذا السياق، يأتي القرار عدد 478 الصادر عن محكمة النقض بتاريخ 09 يوليوز 2020 في الملف الإداري عدد 2020/1/4/132 ، ليشكل علامة فارقة في هذا المضمار، ويقدم إجابات قضائية حاسمة حول الطبيعة القانونية لقرار "التكليف لسد الخصاص" والحدود الفاصلة بينه وبين القرارات المؤثرة في المركز القانوني للموظف.


تدور وقائع هذه القضية حول السيناريو النمطي والمتكرر: أستاذة، وبعد أن تمت الاستجابة لطلبها بالالتحاق بالزوج بمدينة معينة، تفاجأ بصدور قرار إداري يقضي بتكليفها للعمل بمؤسسة أخرى بعيدة عن مقر عملها الأصلي، وذلك لسد خصاص طارئ.  فما كان منها إلا أن طعنت في هذا القرار أمام القضاء الإداري بدعوى الشطط في استعمال السلطة، وهو الطعن الذي لقي قبولاً لدى قضاة الموضوع في المرحلتين الابتدائية والاستئنافية، قبل أن يكون لمحكمة النقض رأي آخر، رأي يعيد رسم حدود السلطة القضائية في مراقبة مثل هذه القرارات.

بناءً على ما سبق، تتبلور الإشكالية المحورية التي يعالجها هذا القرار في السؤال الجوهري التالي: ما هي الطبيعة القانونية الدقيقة لقرار التكليف لسد الخصاص، وما هي الحدود التي يضعها قاضي النقض للسلطة التقديرية للإدارة في تدبير مواردها البشرية، وكيف يوازن بين ضرورة المصلحة العامة المتمثلة في ضمان حق التمدرس، وحق الموظف في الاستقرار المهني والاجتماعي؟

للإحاطة بهذه الإشكالية، سنسير في تحليلنا وفق خطة ثنائية؛ نتناول في مبحث أول، تكريس محكمة النقض للطبيعة التدبيرية البحتة لقرار التكليف وتمييزه عن القرارات المنشئة أو المعدلة للمراكز القانونية. على أن نخصص المبحث الثاني، لتوضيح كيفية تأطير قاضي النقض لهذه السلطة التقديرية، بربط مشروعيتها بتحقيق المصلحة العامة واحترام الإجراءات التنظيمية.

المبحث الأول: تكريس الطبيعة التدبيرية لقرار التكليف وتمييزه عن القرارات المؤثرة في المركز القانوني

إن أول ما يسترعي الانتباه في هذا القرار هو حرص محكمة النقض على وضع تكييف قانوني دقيق لقرار "التكليف"، معتبرة إياه إجراءً تدبيرياً داخلياً، ومميزة إياه بشكل قاطع عن قرارات أخرى كالترقية أو النقل أو الإلحاق.

شرح موقف المحكمة وتكريس المبدأ

لقد بنت محكمة النقض قرارها على أساس أن التكليف المؤقت لسد الخصاص لا يرقى إلى مرتبة القرار الإداري الذي يؤثر في المركز القانوني للمعني بالأمر تأثيراً جوهرياً. ففي تعليلها، اعتبرت أن قضاة الاستئناف جانبوا الصواب عندما لم يأخذوا بعين الاعتبار أن الأمر يتعلق بإجراء وقتي ومؤقت يندرج ضمن "عملية تدبير الفائض والخصاص" ، وأن هذا الإجراء ينتهي بانتهاء موجباته، مع ما يترتب عن ذلك من "الرجوع إلى مقر العمل الأصلي". 

وبهذا التعليل، تكون محكمة النقض قد كرست مبدأً واضحاً مفاده أن التكليف المؤقت ليس نقلاً أو إلحاقاً مقنعاً، بل هو مجرد آلية من آليات التنظيم الداخلي للمرفق العام، تهدف من خلالها الإدارة إلى ضمان استمرارية خدماتها الحيوية، والمتمثلة هنا في "ضمان تمدرس التلاميذ". 

التأصيل، النقد، والتحليل المعمق

إن هذا التوجه الذي كرسته محكمة النقض يجد سنده في صميم نظرية التنظيم الإداري التي تمنح للإدارة، باعتبارها المسؤولة عن حسن سير المرافق العامة، سلطة تنظيمية واسعة. فقرار التكليف هنا ليس قراراً يستهدف الموظف في شخصه أو في حقوقه المكتسبة، بل هو قرار يستهدف "الوظيفة" أو "المنصب" الشاغر بصفة مؤقتة.

والأثر القانوني المترتب عن هذا التكييف بالغ الأهمية؛ فباعتبار قرار التكليف مجرد "إجراء تدبيري داخلي"، فإنه يخرج من نطاق القرارات الخاضعة لوجوب التعليل المنصوص عليها حصراً في القانون رقم 01.03.  وهذا ما دفع به الطاعن (الإدارة) صراحة، وأقرته محكمة النقض ضمنياً حينما نقضت قرار محكمة الاستئناف الذي لم يراعِ هذه الطبيعة المؤقتة والتدبيرية.

إن هذا التكريس القضائي ليس مجرد مسألة شكلية، بل له آثار عميقة على موازين القوى بين الإدارة والموظف. فهو يمنح للإدارة مرونة لا غنى عنها لمواجهة الظروف الطارئة (كغياب أستاذ أو ظهور خصاص مفاجئ)، ويحول دون شل المرفق العام بفعل الطعون القضائية التي قد تستغرق وقتاً طويلاً. وفي المقابل، يضع على عاتق القاضي الإداري عبئاً أكبر للتحقق من أن الإدارة لم تستعمل هذه الآلية كقناع لإصدار عقوبة تأديبية مقنعة أو للتنكيل بموظف معين، وهو ما يقودنا إلى المبحث الثاني.

المبحث الثاني: تأطير السلطة التقديرية للإدارة بضابط المصلحة العامة واحترام الإجراءات

إذا كانت محكمة النقض قد أقرت بالطبيعة التدبيرية لقرار التكليف، فإنها لم تمنح للإدارة شيكاً على بياض. بل على العكس من ذلك، وضعت ضوابط ومعايير واضحة لممارسة هذه السلطة، وهي ضوابط تستمد قوتها من هدفي "المصلحة العامة" و"المشروعية الإجرائية".

شرح موقف المحكمة: الرقابة على الغاية والوسيلة

لم تغفل محكمة النقض عن مراقبة مشروعية قرار التكليف، لكنها وجهت هذه المراقبة نحو الغاية من القرار والإجراءات المتبعة في إصداره، وليس نحو ملاءمته للوضعية الاجتماعية للموظفة. فالمحكمة ربطت بشكل وثيق بين مشروعية التكليف وبين الهدف الأسمى منه، وهو "سد الخصاص الذي تعرفه الثانوية الإعدادية" و "ضمانا لتمدرس التلاميذ"

فضلاً عن ذلك، استندت المحكمة في قرارها بشكل مباشر على المقتضيات الإجرائية الواردة في المذكرة الإطار رقم 56/15 الصادرة بتاريخ 2015/05/06،  والتي تنظم عملية تدبير الفائض والخصاص. وقد اعتبرت أن الإدارة تصرفت في إطار هذه المذكرة عندما "تم اللجوء إلى باقي المدرسين الفائضين بالمديرية الإقليمية لتغطية الخصاص الحاصل حسب ترتيبهم ونقطهم" بعد أن ثبت لديها عدم وجود فائض بنفس الجماعة. 

وبذلك، فإن منطق محكمة النقض كان واضحاً: طالما أن الإدارة استهدفت تحقيق المصلحة العامة، واتبعت في ذلك المسطرة المحددة في المذكرات التنظيمية، فإن قرارها يظل بمنأى عن الإلغاء، حتى لو كان له أثر سلبي على الظروف الشخصية للموظف.

التأصيل والتحليل:

إن هذا التوجه القضائي هو تطبيق دقيق لنظرية "الرقابة على الانحراف بالسلطة". فالقاضي الإداري، وهو يراقب السلطة التقديرية للإدارة، لا يحل نفسه محلها ليقرر ما إذا كان قرارها "مناسباً" أو "ملائماً"، بل يقتصر دوره على التحقق مما إذا كانت الإدارة قد استعملت سلطتها لتحقيق الأهداف التي من أجلها منحها المشرع تلك السلطة.

وفي هذه النازلة، اعتبرت محكمة النقض أن قضاة الموضوع قد تجاوزوا حدود سلطتهم الرقابية عندما اشترطوا على الإدارة "بيان وإثبات هذا الخصاص بشكل تعذر معه تكليف أستاذ آخر ينتمي لنفس الجماعة" ، وهو شرط يفرغ السلطة التقديرية للإدارة من محتواها، ويحول القاضي إلى مدبر إداري. فما دامت الإدارة قد صرحت بوجود خصاص وأنها اتبعت الإجراءات التنظيمية، فإن عبء إثبات عكس ذلك، كإثبات وجود دافع انتقامي وراء القرار، يقع على عاتق الطاعن، وهو ما لم يثبت في القضية.

وهكذا، يرسم القرار خطاً فاصلاً بين الرقابة على المشروعية، وهي من صميم عمل القاضي، والرقابة على الملاءمة، وهي من صميم عمل الإدارة.

خاتمة:

إن التحليل التركيبي لهذا القرار الهام يقودنا إلى استخلاص مجموعة من المبادئ والنتائج الأساسية التي تشكل معالم واضحة للتوجه العام لمحكمة النقض في هذا المجال:

 كرست محكمة النقض مبدأين أساسيين: 

  • أولاً، أن قرار التكليف لسد الخصاص هو إجراء إداري داخلي ومؤقت، لا يرقى لمرتبة القرار المؤثر في المركز القانوني للموظف، وبالتالي لا يخضع لمتطلبات التعليل الصارم. 

  • ثانياً، أن السلطة التقديرية للإدارة في هذا الشأن، وإن كانت واسعة، إلا أنها ليست مطلقة، بل هي مؤطرة بضابط المصلحة العامة (ضمان استمرارية المرفق) وبضابط المشروعية (احترام المساطر التنظيمية).


التوجه العام للقضاء: 

يتجه قضاء محكمة النقض بوضوح نحو تغليب المصلحة العامة للمرفق على المصلحة الخاصة للموظف في حالات التعارض، ومنح الإدارة المرونة اللازمة لضمان استمرارية الخدمات العمومية، شريطة ألا يكون تصرفها مشوباً بالانحراف في استعمال السلطة أو خرقاً للإجراءات المقررة.

وبالتالي يقدم هذا القرار خريطة طريق واضحة للأطراف المعنية:

  • للإدارة: تمتلكين سلطة واسعة لتكليف الموظفين لسد الخصاص، لكن عليك أن تتقيدي بالمذكرات التنظيمية وأن يكون دافعك الوحيد هو المصلحة العامة، مع الابتعاد عن أي شائبة قد توحي بأن القرار هو عقوبة مقنعة.

  • للموظف: الطعن في قرار التكليف المؤقت بدعوى عدم ملاءمته لوضعيتك الاجتماعية غالباً ما يكون مآله الرفض، ما لم تستطع إثبات أن الإدارة انحرفت بسلطتها أو خرقت الإجراءات المعمول بها بشكل صارخ.

  • لقضاة الموضوع: يجب ممارسة رقابة المشروعية على هذه القرارات دون الانزلاق إلى رقابة الملاءمة، مع إعطاء وزن أكبر لضرورة استمرارية المرفق العام.

وفي المحصلة، يشكل هذا القرار لبنة أساسية في صرح الاجتهاد القضائي الإداري، حيث يوازن بحكمة ودقة بين ضرورات التدبير الإداري الفعال وضمانات الحقوق الأساسية للموظف العام. 

إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة

أحدث أقدم

نموذج الاتصال