مقدمة: مدخل إشكالي
تعتبر الحركات الانتقالية للموظفين، وخصوصاً في قطاع حيوي كالتربية الوطنية، آلية أساسية لتدبير الموارد البشرية، تهدف من خلالها الإدارة إلى تحقيق توازن دقيق بين ضمان السير العادي للمرفق العام من جهة، والاستجابة للرغبات الاجتماعية والمهنية لأطرها من جهة أخرى. غير أن هذه العملية، ورغم تأطيرها بمذكرات تنظيمية دقيقة، كثيراً ما تكون مصدراً لنزاعات قضائية يكون فيها القرار الإداري برفض طلب انتقال موضع طعن بالإلغاء للشطط في استعمال السلطة.
ويُعد القرار عدد 526 الصادر عن محكمة النقض بتاريخ 18 أبريل 2019 عينة تمثيلية ونموذجية لهذا النوع من النزاعات، حيث تتلخص وقائعه في كون أستاذة للتعليم الابتدائي، تتوفر على رصيد من النقط يبلغ 115 نقطة، شاركت في الحركة الانتقالية الجهوية طالبة منصباً معيناً، لتفاجأ برفض طلبها وإسناد ذات المنصب لأستاذ آخر لا يتوفر سوى على 24 نقطة. للوهلة الأولى، تبدو هذه الواقعة تجسيداً صارخاً للإخلال بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص. إلا أن دفاع الإدارة، الذي تبنته في نهاية المطاف محكمة النقض، كشف عن معطى جوهري غيّر منظور القضية، وهو أن المستفيد من المنصب شارك في إطار حركة انتقالية مختلفة، هي الحركة الوطنية التي تسبق زمنياً وتنظيمياً الحركة الجهوية.
هذا التوتر الظاهري بين منطق الأرقام (مجموع النقط) ومنطق المساطر (الإطار التنظيمي للحركة) يضعنا أمام الإشكالية المحورية التالية:
كيف يوازن القضاء الإداري، وهو بصدد ممارسة رقابته على مشروعية القرارات الإدارية، بين ضرورة حماية مبدأ المساواة كأحد أعمدة دولة الحق والقانون، واحترام السلطة التنظيمية للإدارة في وضع مساطر وضوابط إجرائية تقتضيها المصلحة العامة، حتى وإن أدت إلى نتائج تبدو في ظاهرها غير منصفة؟
وللإحاطة بأبعاد هذه الإشكالية، سنعتمد الخطة التالية:
المبحث الأول: تكريس التمييز بين الإطار الوطني والجهوي للحركة الانتقالية كضابط للمشروعية.
المبحث الثاني: التطبيق الصارم لشروط قيام مبدأ المساواة في المنازعات الإدارية.
المبحث الأول: تكريس التمييز بين الإطار الوطني والجهوي للحركة الانتقالية كضابط للمشروعية
إن أول مبدأ كرسه قرار محكمة النقض موضوع تحليلنا، هو إضفاء الحجية والقوة القانونية على التمييز الذي تضعه النصوص التنظيمية، وتحديداً المذكرة الإطار الخاصة بالحركات الانتقالية، بين مختلف أنواع هذه الحركات. فالمحكمة لم تنظر إلى عملية الانتقال ككتلة واحدة يُحتكم فيها فقط إلى معيار النقط، بل اعتبرت أن كل حركة تشكل نظاماً قانونياً قائماً بذاته، له قواعده ومجاله الزمني والمكاني الخاص.
أولاً: التسلسل الزمني والإجرائي للحركات كأساس قانوني
أبرزت محكمة النقض، في تعليلها، الحجة الدامغة التي قدمتها الإدارة، والتي مفادها أن الحركة الوطنية تسبق من حيث الزمن الحركة الجهوية، وأن المناصب التي تبقى شاغرة بعد انتهاء الأولى هي التي يُفتح باب التباري بشأنها في الثانية. فالحركة الوطنية، التي تشرف عليها الوزارة مركزياً، تهدف إلى إعادة انتشار الأطر على المستوى الوطني وتلبية الخصاص في بعض المناطق، وتكون المناصب المعلنة فيها "شاغرة أو محتمل شغورها". أما الحركة الجهوية، التي تشرف عليها الأكاديميات، فتأتي في مرحلة لاحقة لتدبير المناصب التي لم تملأها الحركة الوطنية.
إن هذا التكريس القضائي للتسلسل الإجرائي ليس مجرد مسألة شكلية، بل له آثار قانونية عميقة. فهو يعني أن المشارك في الحركة الجهوية لا يتبارى على ذات المناصب وفي ذات اللحظة مع المشارك في الحركة الوطنية. فبحلول وقت انطلاق الحركة الجهوية، يكون مصير بعض المناصب قد حُسم بالفعل في إطار الحركة الوطنية. وعليه، فإن المركز القانوني للمشارك في هذه الحركة يختلف جوهرياً عن المركز القانوني للمشارك في تلك.
ثانياً: حماية السلطة التنظيمية للإدارة والأمن القانوني
بإقرارها لهذا التمييز، فإن محكمة النقض لا تدافع عن الإدارة بقدر ما تدافع عن مبدأ الشرعية ومبدأ الأمن القانوني. فالسلطة التنظيمية التي تملكها الإدارة تخولها وضع قواعد إجرائية لتدبير شؤونها، شريطة أن تكون هذه القواعد عامة ومجردة وأن تطبق على الجميع دون تمييز. والمذكرة الإطار، التي ميزت بين الحركات، هي جزء من هذه السلطة التنظيمية.
وعليه، فإن تجاهل هذا التمييز، كما فعل قضاة الموضوع في المرحلتين الابتدائية والاستئنافية، من شأنه أن يخلق فوضى إجرائية ويزعزع استقرار المراكز القانونية. فالموظف الذي يشارك في الحركة الوطنية، بناءً على قواعدها، له الحق في أن يُعامَل وفقاً لتلك القواعد وحدها، ومن غير المقبول قانوناً أن يُقارن وضعه بوضع موظف آخر يشارك في حركة لاحقة ذات قواعد مختلفة. لقد أعاد قرار محكمة النقض الأمور إلى نصابها، مؤكداً على أن احترام الإدارة للمساطر التي وضعتها بنفسها هو جوهر مبدأ المشروعية.
المبحث الثاني: التطبيق الصارم لشروط قيام مبدأ المساواة في المنازعات الإدارية
إذا كان المبحث الأول قد ركز على الإطار الموضوعي للنزاع، فإن هذا المبحث سيركز على المبدأ القانوني الذي شكل محور الدعوى، وهو مبدأ المساواة. لقد قدمت محكمة النقض في هذا القرار درساً منهجياً بليغاً في كيفية إعمال هذا المبدأ، بعيداً عن القراءة السطحية والمجردة.
أولاً: "تماثل الوضعيات" كشرط جوهري لتطبيق مبدأ المساواة
لقد اعتبرت محاكم الموضوع أن مجرد حصول موظف على منصب بنقط أقل من موظفة أخرى يشكل خرقاً للمساواة. إلا أن محكمة النقض تصدت لهذا التوجه، مذكرةً بقاعدة قانونية راسخة في القضاء الإداري، وهي أن إعمال مبدأ المساواة يقتضي بالضرورة
تماثل المراكز القانونية والواقعية للأشخاص موضوع المقارنة.
وقد جاء في تعليل القرار ما يلي: "...ولا مجال معه للحديث على خرق مبدأ المساواة الذي له شروطه المتمثلة في تماثل وضعية المستأنف عليها مع وضعية الشخص المذكور، وهو الأمر المنتفى في النازلة". هذا التعليل، على وجازته، يختزل عقيدة قضائية متواترة. فالمساواة لا تعني معاملة الجميع بنفس الطريقة في جميع الظروف، بل تعني معاملة من هم في نفس الوضعية القانونية بنفس المعاملة.
وفي قضية الحال، فإن الوضعيات لم تكن متماثلة على الإطلاق:
الأستاذة الطاعنة: مشاركة في حركة جهوية محلية.
الأستاذ المستفيد: مشارك في حركة وطنية.
هذا الاختلاف في الإطار القانوني للمشاركة كافٍ وحده، في نظر محكمة النقض، لهدم أساس المقارنة، وبالتالي نفي أي إخلال بمبدأ المساواة.
ثانياً: ترجيح المشروعية الإجرائية على الإنصاف الظاهري
إن ما يميز هذا القرار هو أنه يمثل انتصاراً للمشروعية الإجرائية على ما قد يبدو للوهلة الأولى "إنصافاً" أو "عدلاً" قائماً على مقارنة عددية بسيطة. فقضاة النقض لم ينجروا وراء التعاطف مع الموظفة صاحبة الرصيد الأعلى من النقط، بل طبقوا القانون تطبيقاً سليماً وصارماً.
إن هذا التوجه يجد سنده في فلسفة الرقابة القضائية على أعمال الإدارة، والتي لا تهدف إلى أن يحل القاضي محل الإدارة في تقييم الملاءمة، بل تهدف إلى التأكد من أن الإدارة، في اتخاذها لقراراتها، قد احترمت قواعد الاختصاص والشكل والمسطرة والغاية ولم تنحرف بالسلطة. وفي هذه القضية، طالما أن الإدارة طبقت قواعد الحركة الوطنية على المشاركين فيها، وطبقت قواعد الحركة الجهوية على المشاركين فيها، فإن قرارها يظل بمنأى عن الإلغاء، حتى وإن لم تبدُ نتائجه منصفة من منظور مجرد. لقد جانب الصواب تماماً قضاة الموضوع عندما "سووا بين شروط الحركة الانتقالية الوطنية والحركة الانتقالية الجهوية" ، لأن في هذه التسوية خلطاً بين نظامين قانونيين مختلفين.
خاتمة:
من خلال التحليل التركيبي لهذا القرار الهام، يتضح بجلاء أن التوجه العام لمحكمة النقض في مجال منازعات الحركة الانتقالية يقوم على تحقيق توازن دقيق قوامه احترام السلطة التنظيمية للإدارة في وضع الضوابط المسطرية، وتطبيق صارم لمبدأ المساواة لا ينفك عن شرطه الجوهري المتمثل في تماثل المراكز القانونية.
لقد رسمت محكمة النقض، من خلال هذا الاجتهاد، خطاً فاصلاً وواضحاً مفاده أن الرقابة القضائية لا يمكن أن تتجاهل الأطر القانونية والإجرائية التي تنظم المنافسة على المناصب. فالمشروعية لا تتحدد فقط بالنتيجة النهائية، بل بمدى احترام الإدارة للإجراءات التي سطرتها سلفاً.
ويمكن استخلاص خلاصة عملية موجهة لكافة الأطراف:
بالنسبة للإدارة: هذا القرار يعزز سلطتها التنظيمية، لكنه يلزمها في المقابل بضرورة وضع قواعد واضحة وشفافة، وتطبيقها بدقة على جميع المشاركين داخل كل إطار على حدة.
بالنسبة للأساتذة: عليهم أن يدركوا أن الطعن المؤسس على خرق مبدأ المساواة لا يكفي فيه الاستناد إلى المقارنة العددية للنقط، بل يجب إثبات أن المقارنة تتم بين أشخاص يوجدون في ذات المركز القانوني والواقعي، أي أنهم شاركوا في نفس المنافسة وخضعوا لنفس القواعد.
في نهاية المطاف، يؤكد هذا القرار أن العدالة الإدارية ليست مجرد تحقيق للإنصاف المادي، بل هي في العمق ضمانة لاحترام القانون وسيادة المشروعية.
إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة

