مقدمة:
تعتبر مسألة تقييم الأداء المهني للموظفين العموميين، وخصوصاً في قطاع حيوي كالتعليم، من أبرز المجالات التي تتجلى فيها السلطة التقديرية للإدارة. فالنقطة العددية التي يمنحها المفتش التربوي لرجل التعليم ليست مجرد رقم إداري، بل هي تتويج لعملية تقييم معقدة، تهدف إلى قياس الكفاءة والمردودية، وتؤثر بشكل مباشر في المسار المهني والترقية. غير أن هذه السلطة، على أهميتها لضمان حسن سير المرفق العام، ليست سلطة مطلقة، بل هي مقيدة بضوابط الشرعية، وفي مقدمتها غاية المصلحة العامة.
ويأتي القرار عدد 557 الصادر عن محكمة النقض بتاريخ 23 يوليوز 2020 في الملف الإداري عدد 2019/1/4/3459 ، ليكرس هذا التوازن الدقيق. فالوقائع النموذجية التي انبثق عنها هذا النزاع، والتي تتكرر في العديد من القضايا المماثلة، تتمحور حول أستاذ، وبعد مسار مهني مستقر تميز بنقط تفتيش جيدة (17/20)، يفاجأ بمنحه نقطة متدنية جداً (08/20) ، ويعزو هذا التراجع الحاد إلى توتر علاقته بالإدارة ورفضه مجاراة ما اعتبره رغبة في تضخيم نقط التلاميذ. في المقابل، تستند الإدارة في قرارها إلى تقرير تفتيش يعدد ملاحظات سلبية حول أدائه المهني والتربوي.
هذا التجاذب بين ادعاء الموظف بالتعسف والشطط، ودفاع الإدارة بضرورة ممارسة سلطتها التقديرية في التقييم، يضعنا أمام الإشكالية المحورية التي عمل الاجتهاد القضائي على حسمها:
إلى أي حد استطاع القضاء الإداري، من خلال رقابته على مشروعية قرار منح النقطة العددية، أن يوازن بين ضرورة تحصين السلطة التقديرية للإدارة في تقييم موظفيها، وبين واجب صون حقوق هؤلاء الموظفين ضد كل انحراف أو تعسف محتمل في استعمال تلك السلطة؟
وللإجابة عن هذه الإشكالية، سنعتمد خطة تحليلية ترتكز على مبحثين أساسيين:
نخصص الأول لتبيان القاعدة التي أرستها محكمة النقض، وهي تكريس السلطة التقديرية للإدارة في مجال التقييم (المبحث الأول)،
ثم نتناول في الثاني الاستثناء الذي يضبط هذه القاعدة، والمتمثل في إخضاعها لرقابة الانحراف في استعمال السلطة (المبحث الثاني).
المبحث الأول: تكريس السلطة التقديرية للإدارة كأساس لمنح النقطة العددية
إن أول مبدأ تؤكده محكمة النقض في هذا القرار، سيراً على نهج استقر عليه القضاء الإداري، هو أن عملية تقييم الأداء التربوي تدخل في صميم السلطة التقديرية للإدارة. فالقاضي الإداري لا ينصّب نفسه مقيّماً بديلاً أو مفتشاً أعلى، بل يقر للإدارة بامتلاكها هامشاً من الحرية في تقدير كفاءة موظفيها، وهو تقدير تمليه الخبرة الفنية والتخصص.
وقد عبر القرار موضوع تحليلنا عن هذا المبدأ بوضوح تام حين علل بأن:
"نقطة التفتيش أو المراقبة التربوية مرتبطة أساسا بتقييم جودة الأداء التربوي والمردودية وتمنح بناء على الكفاءة التربوية للمدرس ومدى تطبيقه للمقررات المحددة".
ثم يخلص إلى النتيجة المنطقية لهذا المبدأ بالقول:
"فإن النقطة العددية التي يمنحها المفتش لرجل التعليم تدخل في إطار السلطة التقديرية للإدارة".
وهذا التوجه يجد سنده في الطبيعة الخاصة لعملية التقييم التربوي. فهي ليست عملية حسابية آلية، بل هي عملية مركبة تعتمد على معاينة مباشرة للأداء، وتقييم للكفايات الشخصية والمهنية، وقدرة المدرس على التواصل وتدبير الفصل وتطبيق المناهج. هذه كلها عناصر فنية وتقنية، يملك المختصون (المفتشون) الأدوات والخبرة اللازمة لتقديرها، وهو ما لا يتأتى للقاضي الذي يمارس رقابة قانونية محضة.
إن هذا التكريس ليس مجرد مسألة شكلية، بل له آثار عميقة على طبيعة النزاع وحدود الرقابة. فبمجرد تصنيف القرار ضمن نطاق السلطة التقديرية، فإن القاضي يمتنع عن مناقشة "ملاءمة" النقطة الممنوحة. فلا يصح للطاعن أن يجادل أمام القضاء في ما إذا كان يستحق نقطة 10/20 بدلاً من 08/20، كما لا يمكنه التمسك بنقطه السابقة كحق مكتسب. وقد أكدت المحكمة هذه النقطة بالذات حين ردت على دفع الطاعن المتعلق بحصوله سابقاً على نقطة 17/20، معتبرة أن:
"حصول المستأنف عليه على نقط عليا في تفتيشات سابقة لا يعطيه حقا مكتسبا" ، وأن التقييم مرتبط باللحظة التي أُجري فيها.
بهذا، يرسم القضاء حدوداً واضحة لتدخله، فهو لا يحل محل الإدارة في تقييمها الفني، إقراراً منه بمبدأ الفصل بين السلطات، واحتراماً للتخصص الذي تقوم عليه الإدارة الحديثة. ولكن، وهذا هو جوهر عمل القاضي الإداري، فإن هذا الامتناع عن مناقشة الملاءمة لا يعني إطلاقاً رفع يد القضاء بشكل كلي عن القرار، بل تظل رقابته قائمة وفعالة من زاوية أخرى أكثر دقة وعمقاً.
المبحث الثاني: رقابة الانحراف في استعمال السلطة كضابط استثنائي وحدٍّ فاصل
إذا كانت السلطة التقديرية هي القاعدة، فإن رقابة الانحراف في استعمال السلطة هي السياج الذي يحمي هذه السلطة من أن تتحول إلى تعسف. فالقاضي الإداري، وإن كان لا يناقش مدى ملاءمة النقطة، فإنه يملك كامل الصلاحية للبحث في الغاية التي صدر من أجلها القرار.
وقد نص القرار صراحة على هذا الاستثناء حين أكد أن سلطة الإدارة التقديرية "لا رقابة للقضاء عليها إلا بسبب الانحراف في استعمال السلطة". والانحراف هنا يعني أن الإدارة، ممثلة في المفتش، استعملت صلاحية التقييم لتحقيق غاية غير تلك التي منحتها لها النصوص القانونية. فبدلاً من أن تكون الغاية هي تقييم الأداء التربوي للموظف بهدف المصلحة العامة، تصبح الغاية هي معاقبته أو الانتقام منه لأسباب شخصية أو مواقف لا علاقة لها بأدائه المهني، كما ادعى الطاعن في النازلة.
وهنا تكمن دقة عمل محكمة النقض، التي انتقلت من إقرار المبدأ العام إلى تطبيقه على وقائع القضية. فكيف تبحث المحكمة عن هذا العيب الخفي المتعلق بنية مصدر القرار؟ إنها تفعل ذلك من خلال فحص دقيق للمعطيات المادية للملف، وفي مقدمتها تقرير التفتيش.
في هذه القضية، لم تكتف المحكمة بالقول إن النقطة هي سلطة تقديرية، بل غاصت في حيثيات التقرير الذي استندت إليه الإدارة، ووجدت أنه "ارتكز على تقييم للكفايات الشخصية والمهنية للطالب مع تقييم عام والذي أوضح فيه المفتش ضعف التواصل والتفاعل الإيجابي للطالب مع محيط عمله... وعدم توفره على أي تخطيط عقلاني أو تدبير ديداكتيكي... وأنه غير متمكن بما فيه الكفاية من مادة التدريس".
إن وجود هذه التعليلات الفنية والمفصلة في صلب التقرير هو ما شكل حجة الإدارة ودفاعها الأساسي. فالمحكمة اعتبرت أن القرار المطعون فيه لم يكن قراراً صامتاً أو غير مبرر، بل كان مؤسساً على وقائع وملاحظات مهنية، حتى وإن كانت محل منازعة من الطاعن. وأمام هذه المبررات الظاهرة، يصبح عبء إثبات الانحراف، أي إثبات أن هذه المبررات ما هي إلا ستار لغاية أخرى، ملقى على عاتق الطاعن.
وهنا تتجلى الصعوبة العملية التي يواجهها الموظف، حيث إن إثبات النوايا أمر عسير. فالمحكمة، في غياب دليل قاطع على الانحراف (كشهادات أو وثائق تثبت وجود ضغائن شخصية)، خلصت إلى "أنه لا يوجد بالملف ما يثبت انحراف المفتش في استعمال السلطة عند منحه للنقطة العددية المذكورة". وبالتالي، اعتبرت أن قضاة الموضوع حينما رفضوا طلب الإلغاء كانوا على صواب، لأن القرار الإداري، ظاهرياً على الأقل، كان محمولاً على أسبابه القانونية والواقعية الصحيحة.
خاتمة:
في نهاية هذا التحليل، يتضح أن اجتهاد محكمة النقض في مسألة الرقابة على النقطة العددية للمفتش يرتكز على معادلة قضائية دقيقة ومتوازنة. فهو من جهة، يحصّن السلطة التقديرية للإدارة باعتبارها أداة لا غنى عنها لتدبير المرفق العام وضمان جودة الأداء، ومن جهة أخرى، يبقي سيف رقابته مسلطاً على هذه السلطة من خلال آلية "الانحراف في استعمال السلطة"، لضمان عدم شططها أو تحولها إلى أداة للتعسف.
إن التوجه العام الذي يمكن استخلاصه هو توجه يميل إلى ضبط النفس القضائي، حيث لا يتدخل القاضي في صميم التقييم الفني، ولكنه يمارس رقابة صارمة على الغاية من القرار.
والخلاصة العملية التي يمكن تقديمها للأطراف المعنية واضحة:
بالنسبة للإدارة: إن السلطة التقديرية ليست شيكاً على بياض. ولكي تكون قرارات التقييم في مأمن من الإلغاء القضائي، يجب أن تكون دائماً مؤسسة على تقارير مفصلة، ومبررة بأسباب موضوعية، ومرتبطة بالأداء المهني حصراً، وبعيدة كل البعد عن أي اعتبارات شخصية.
بالنسبة للأساتذة: إن مجرد عدم الرضا عن النقطة الممنوحة، أو التفاوت الكبير بينها وبين نقط سابقة، لا يكفي وحده لإثبات الشطط في استعمال السلطة. بل لا بد من تقديم قرائن قوية ومتماسكة تدل على أن القرار كان يهدف إلى تحقيق غاية أخرى غير المصلحة العامة.
وهكذا، يواصل القضاء الإداري، من خلال فقه قضائي رصين، رسم الحدود الفاصلة بين المشروعية والملاءمة، حامياً للحقوق والحريات، وضامناً في الآن ذاته لفعالية العمل الإداري.
إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة

