مقدمة:
إن التنظيم التربوي، بما يشمله من إسناد للمستويات وتوزيع للحصص ووضع لاستعمالات الزمن، ليس مجرد عملية تقنية محضة، بل هو في جوهره ممارسة لسلطة إدارية ذات آثار عميقة ومباشرة على المرفق العام التعليمي. فهو يمس من جهة بالوضعية المهنية والنفسية للأستاذ، ويؤثر من جهة أخرى، وهي الأهم، في "المصلحة الفضلى للمتعلم" التي يجب أن تشكل البوصلة التي توجه كل قرار إداري في هذا المجال.
وتكشف الدراسة التي بين أيدينا، والتي تقدم تحليلاً شاملاً للإطار القانوني والمسارات الإجرائية للطعن في قرارات التنظيم التربوي، عن سيناريو نزاعي نموذجي ومتكرر: أستاذ يشعر بالإجحاف نتيجة قرار يرى أنه تجاهل أقدميته أو استهدف شخصه، في مواجهة إدارة تتمسك بسلطتها في تدبير شؤون المؤسسة بما تراه ملائماً.
هذا الوضع يضعنا في قلب إشكالية كلاسيكية في القانون الإداري، وهي الإشكالية التي تعالجها هذه الدراسة:
كيف يوازن القانوني الإداري المغربي بين السلطة التقديرية الضرورية الممنوحة لمدير المؤسسة لضمان حسن سير المرفق، وبين حق الأستاذ في الإنصاف والمساواة والطعن في القرارات التي يراها مجحفة، في إطار خضوع الإدارة لمبدأ المشروعية؟
وللإجابة على هذه الإشكالية المحورية، سنتبع خطة التحليل التالية، مستلهمين من البناء المنطقي للدراسة نفسها:
المبحث الأول: تكريس مبدأ المشروعية كقيد على السلطة التقديرية للإدارة.
المبحث الثاني: هرمية المعايير الموضوعية كآلية لضمان العدالة والشفافية.
المبحث الثالث: الضمانات الإجرائية والقضائية كحصن أخير للحق.
المبحث الرابع: دراسة حالة تطبيقية في خرق اتفاق التنظيم التربوي.
المبحث الأول: تكريس مبدأ المشروعية كقيد على السلطة التقديرية للإدارة
إن أول وأهم مبدأ ترسخه الدراسة هو أن سلطة مدير المؤسسة في إعداد التنظيم التربوي ليست امتيازاً مطلقاً أو سلطة تحكمية، بل هي "سلطة تقديرية مقيدة". فخلافاً للفهم السطحي الذي قد يرى في المدير صاحب القرار الأوحد، يؤكد التحليل أن هذه السلطة محاطة بسياج من الشرعية القانونية التي لا يمكن تجاوزها.
وتكريسا لهذا المبدأ تجد هذه السلطة سندها الأول في المذكرة الوزارية رقم 39 بتاريخ 6 فبراير 1981، التي تمنح المدير سلطة توزيع الأساتذة على الأقسام. لكن هذا التكريس ليس شيكاً على بياض. فالمذكرة نفسها، وهي النص التأسيسي في هذا الباب، تربط هذه السلطة بتحقيق "المصلحة الكبرى" للمؤسسة والمتعلمين ، وتشدد على معياري "المقدرة والكفاءة".
وعند التأصيل والتحليل المعمق نجد أن هذا التوجه يجد سنده في المبدأ الدستوري والإداري القاضي بخضوع الإدارة للقانون. وقد كشفت الممارسة العملية، كما تشير الدراسة بحق، أن الاعتماد الحصري على معيار "الكفاءة" الذاتي قد يفتح الباب أمام التعسف والمحاباة. ومن هنا، نشأ توجه إداري وقضائي لاحق سعى إلى "عقلنة" هذه السلطة التقديرية عبر إخضاعها لمعايير أكثر موضوعية.
إن هذا التطور، الذي أرسته المذكرات الإقليمية اللاحقة، لا يلغي المذكرة 39، بل يقيدها ويكملها. لقد انتقل عبء الإثبات، بموجب هذا التطور، من الأستاذ الذي عليه أن يثبت الظلم، إلى المدير الذي يقع عليه عبء تبرير قراره بتجاوز المعايير الموضوعية (كالأقدمية) بضرورة بيداغوجية حقيقية وقابلة للإثبات. وهذا ليس مجرد تحول شكلي، بل هو قلب للمنطق القانوني يعزز بشكل كبير من ضمانات الأستاذ وحقه في الدفاع المشروع عن مكتسباته.
المبحث الثاني: هرمية المعايير الموضوعية كآلية لضمان العدالة والشفافية
إذا كان المبدأ العام هو تقييد السلطة التقديرية، فإن الآلية العملية لتحقيق ذلك هي الاحتكام إلى هرمية واضحة من المعايير التي تحول القرار الإداري من عمل إرادي محض إلى تطبيق شبه موضوعي للقواعد التنظيمية عند غياب التوافق.
وتكريسا لهذا المبدأ القاعدة الذهبية التي تنطلق منها عملية التنظيم التربوي هي البحث عن التراضي بين الأساتذة، والذي يجب أن يوثق في محضر رسمي. لكن هذا التراضي نفسه مقيد بعدم المساس بمصلحة المتعلمين. وعندما يستحيل التوصل إلى اتفاق، لا يترك الأمر للسلطة المطلقة للمدير، بل يتم اللجوء إلى سلسلة من المعايير الترجيحية الصارمة، والتي لا يتم الانتقال فيها إلى المعيار الموالي إلا عند التساوي في المعيار السابق.
وعند التأصيل والتحليل المعمق نجد أن المراسلات المديرية الإقليمية قد حددت هذه الهرمية بدقة متناهية، وهي كالتالي:
- الأقدمية بالمؤسسة
- الأقدمية بالمديرية الإقليمية
- الأقدمية العامة
- السن
- القرعة كحل أخير ونهائي.
إن هذا التكريس لهرمية المعايير ليس مجرد مسألة شكلية، بل له آثار عميقة على مستوى ضمان الحقوق. فهو ينقل النزاع من حقل التقديرات الذاتية إلى حقل الوقائع الموضوعية القابلة للإثبات. لم يعد بإمكان الأستاذ أن يشتكي من "الظلم" بشكل عام، بل أصبح بإمكانه أن يحدد بدقة القاعدة القانونية التي تم خرقها (مثلاً: "تم تجاوزي رغم أني أقدم في المؤسسة"). وهذا التحديد الدقيق للخرق هو مفتاح أي طعن إداري أو قضائي ناجح.
المبحث الثالث: الضمانات الإجرائية والقضائية كحصن أخير للحق
عندما تعتقد الإدارة أنها على صواب، ويعتقد الأستاذ أن حقه قد هُضم، لا يترك القانون هذا الصدام دون حلول. لقد وضع المشرع مسارات واضحة ومتدرجة تمكن من عرض النزاع على جهات متعددة، وصولاً إلى القضاء الإداري كضمانة قصوى.
وتكريسا لهذا المبدأ يفتح القانون أمام الأستاذ مسارين متكاملين: المسار الإداري عبر التظلم بنوعيه الاستعطافي والرئاسي ، والمسار القضائي عبر دعوى الإلغاء أمام المحكمة الإدارية.
وعند التأصيل والتحليل المعمق نجد أنه:
على المستوى الإداري: إن أهمية التظلم، كما توضح الدراسة، لا تكمن فقط في كونه محاولة للحل الودي، بل في وظيفته الإجرائية الحيوية. فهو من جهة شرط لقبول الدعوى القضائية في كثير من الأحيان، ومن جهة أخرى هو حجر الزاوية في بناء الملف القضائي لاحقاً. ذلك أن الفصل 32 من قانون المسطرة المدنية يلزم رافع الدعوى بأن ترفق بالطلب "المستندات التي ينوي المدعي استعمالها". وعليه، فإن رسالة التظلم المكتوبة، وجواب الإدارة عليها (أو ما يثبت مرور أجل 60 يوماً دون جواب، والذي يعتبر قراراً ضمنياً بالرفض )، تتحول من مجرد مراسلات إدارية إلى مستندات ووثائق إثبات أساسية تشكل صلب الملف المعروض على القاضي.
على المستوى القضائي: القضاء الإداري هو حامي مبدأ المشروعية. فمن خلال دعوى الإلغاء، يمارس القاضي رقابته على القرار الإداري للتأكد من خلوه من العيوب التي تبطله. وهذه العيوب، التي حددتها المادة 20 من القانون رقم 41.90 المحدث للمحاكم الإدارية، تشكل مجتمعة أسباب "تجاوز السلطة"، وهي كالتالي:
- عيب عدم الاختصاص: ويتحقق حين يصدر القرار عن جهة غير مختصة قانوناً بإصداره، كأن يصدر قرار إسناد المستويات من طرف الحارس العام بدلاً من المدير.
- عيب الشكل والإجراءات: ويتمثل في إغفال الإدارة للشكليات والإجراءات الجوهرية التي فرضها القانون، كإعداد التنظيم التربوي دون استشارة المجلس التربوي.
- عيب مخالفة القانون: وهو العيب الأكثر شيوعاً، ويتحقق بشكل صارخ عند خرق هرمية معايير الترجيح، كتفضيل أستاذ حديث العهد على آخر أقدم منه في المؤسسة دون مبرر بيداغوجي.
- عيب الانحراف في السلطة: أو ما يصطلح عليه فقهاً وقضاءً بـ "الشطط في استعمال السلطة"، ويتحقق حين تستعمل الإدارة سلطتها لتحقيق غايات لا علاقة لها بالمصلحة العامة، كالانتقام من أستاذ بسبب نشاطه النقابي عبر إسناده جدول حصص مجحف.
المبحث الرابع: دراسة حالة تطبيقية في خرق اتفاق التنظيم التربوي
لتوضيح هذه المبادئ المجردة، لنتأمل الحالة العملية التالية التي تتكرر في الممارسة: يقوم المدير بالإشراف على مرحلة التوافق على صيغة محددة للتنظيم التربوي، كاعتماد تفويج معين بين المستويات في استعمال الزمن، ويتم توثيق هذا الاتفاق الجماعي في محضر رسمي. لكن بعد أيام، وتحت تأثير طلبات من بعض الأساتذة، يقوم المدير بشكل انفرادي بتغيير تلك الصيغة المتفق عليها، ليصدر تنظيماً جديداً بصيغة "مبعثرة" وغير متوازنة، مما يلحق ضرراً بأساتذة آخرين لم تتم استشارتهم.
إن هذا القرار الثاني الذي اتخذه المدير يعتبر قراراً إدارياً معيباً وقابلاً للإلغاء بناءً على ما سبق بيانه:
خرق مبدأ التراضي الموثق: المحضر الأولي هو وثيقة رسمية تجسد التراضي، ولا يمكن للإدارة التنصل منه بقرار انفرادي لاحق.
العيب الشكلي والمسطري: لقد خرق المدير قاعدة "توازي الشكليات"، فقرار جماعي تم التوصل إليه عبر اجتماع ومحضر، لا يمكن تعديله إلا بنفس الآلية، أي باجتماع جديد ومحضر جديد.
الانحراف عن المصلحة التربوية: إذا كانت الصيغة الجديدة تخدم فقط الراحة الشخصية للبعض على حساب منطق بيداغوجي سليم (كتجميع المستويات لتسهيل الدعم)، فإن القرار ينحرف عن تحقيق المصلحة الفضلى للمتعلم.
في هذه الحالة، يكون من حق الأستاذ المتضرر الطعن في القرار الثاني للمدير، باتباع المسارات التي أوضحناها، بدءاً بالتظلم الفوري الذي يستند فيه إلى خرق المحضر المتفق عليه، وصولاً إلى القضاء الإداري الذي غالباً ما سيقضي بإلغاء القرار المعيب.
خاتمة:
إن القراءة التركيبية لهذا التحليل، مدعماً بالحالة التطبيقية، تقودنا إلى استنتاج جوهري: لقد نجح المشرع المغربي والممارسة الإدارية والقضائية في بناء منظومة متكاملة من الضوابط والضمانات التي تهدف إلى تحقيق توازن دقيق بين ضرورة منح الإدارة سلطة تقديرية لتسيير المرفق العام، وضرورة حماية الموظف من أي تعسف محتمل.
فالتوجه العام الذي يتجلى بوضوح هو الانتقال من منطق "السلطة" إلى منطق "المشروعية". لم تعد العلاقة بين المدير والأستاذ في هذا المجال علاقة رئيس بمرؤوس خاضعة للإرادة المنفردة، بل أصبحت علاقة مؤطرة بقواعد قانونية وإجرائية واضحة، هدفها الأسمى هو خدمة المصلحة العامة ومصلحة المتعلم، مع ضمان حقوق الأستاذ في شروط عمل عادلة ومنصفة.
ويمكن تقديم الخلاصة العملية التالية لكل الأطراف المعنية:
للإدارة التربوية: إن أي قرار لا يحترم هرمية المعايير الموضوعية عند غياب التراضي، أو يتجاوز اتفاقاً جماعياً موثقاً، هو قرار هش من الناحية القانونية، وقابل للإلغاء أمام القضاء الإداري.
للأستاذ: إن الشعور بالظلم وحده لا يكفي. فالحق يحتاج إلى إثبات، والإثبات يمر حتماً عبر التوثيق الدقيق ، واحترام المسارات الإجرائية للتظلم ، والاستناد في الدفاع إلى خرق واضح لنصوص القانون، وليس فقط إلى الانطباعات الشخصية.
وفي نهاية المطاف، فإن هذا الإطار القانوني المتكامل لا يهدف إلى خلق نزاعات، بل إلى تفاديها، عبر إرساء قواعد واضحة وشفافة تجعل من العدل والإنصاف أساساً متيناً للسير العادي للمؤسسة التعليمية.
إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة
Tags
إضاءات قانونية
