مقدمة:
تكتسي مسألة تحديد المسؤولية عن الأضرار التي تلحق بتلاميذ المؤسسات التعليمية العمومية أهمية قانونية ومجتمعية بالغة، فهي تقع عند نقطة تقاطع دقيقة بين واجب الدولة في توفير خدمة التعليم كأحد أبرز المرافق العمومية الحيوية، وحق الأفراد، وخاصة فئة القاصرين، في الحماية والسلامة الجسدية. وفي خضم هذا التفاعل، يبرز دور القضاء كآلية لإنصاف الضحايا وتحديد المسؤوليات، مما يطرح ابتداءً إشكالية تحديد الجهة القضائية المختصة للنظر في هذه المنازعات.
ويُعد القرار الصادر عن محكمة النقض، بتاريخ 09 مارس 2023، والذي بين أيدينا، عينة تمثيلية ونموذجية للاجتهاد القضائي المستقر في هذا الباب. وتتلخص وقائعه النموذجية، التي تتكرر في العديد من القضايا المشابهة، في تعرض تلميذ لحادث داخل مؤسسة تعليمية عمومية، مما حدا بولي أمره إلى رفع دعوى تعويض أمام المحكمة الابتدائية (القضاء العادي) في مواجهة المؤسسة المعنية، لتثير الدولة، عبر وكيلها القضائي، دفعاً أولياً بعدم الاختصاص النوعي لفائدة القضاء الإداري.
هذا التدافع الإجرائي بين جهتي القضاء العادي والإداري يضعنا أمام الإشكالية المحورية التي سعى قرار محكمة النقض إلى حسمها بصفة نهائية:
إلى أي حد استطاعت محكمة النقض، من خلال هذا القرار، أن تحسم الجدل حول الطبيعة القانونية لمسؤولية الدولة عن الأضرار الناشئة عن مرافقها العمومية، وأن ترسم حدوداً فاصلة وواضحة بين ولاية القضاء العادي وولاية القضاء الإداري في هذا الصنف من المنازعات؟
للإجابة على هذه الإشكالية، سنعتمد تصميماً يقوم على مبحثين أساسيين:
نتناول في الأول المبدأ الذي كرسته محكمة النقض والقاضي بانعقاد الاختصاص للقضاء الإداري (المبحث الأول)،
قبل أن ننتقل في الثاني إلى تحليل الأسس القانونية والقضائية لهذا التوجه وبيان آثاره العملية (المبحث الثاني).
المبحث الأول: تكريس محكمة النقض للاختصاص الحصري للقضاء الإداري في دعاوى الحوادث المدرسية
إن أول ما يسترعي الانتباه في القرار موضوع التحليل هو الحسم والوضوح الذي طبع منطوقه وتعليلاته، حيث لم تتردد محكمة النقض في إلغاء حكم المحكمة الابتدائية التي كانت قد أعلنت عن اختصاصها، معتبرةً إياه قد "جانب الصواب".
وقد بنت محكمتنا العليا قضاءها على مبدأ قانوني واضح، كرسته بعبارات لا تحتمل التأويل، مفاده أن دعوى التعويض عن حادث مدرسي وقع في مؤسسة عمومية "تندرج ضمن دعاوى التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام التي تختص نوعيا بالبت فيها المحاكم الإدارية".
إن هذا التكريس ليس مجرد مسألة شكلية أو إجرائية، بل هو في جوهره تكييف للطبيعة القانونية للنزاع. فمحكمة النقض اعتبرت أن الحادثة، رغم أنها قد تبدو في ظاهرها مجرد واقعة مادية (ضرر)، إلا أنها في عمقها مرتبطة أشد الارتباط بنشاط مرفق عمومي، هو مرفق التعليم. فالمسؤولية هنا ليست مسؤولية شخصية لأستاذ أو مدير، بل هي مسؤولية "شخص من أشخاص القانون العام" (الدولة ممثلة في المؤسسة التعليمية) عن الضرر الذي وقع أثناء تسييره لهذا المرفق. وبهذا التكييف، أخرجت محكمة النقض النزاع من دائرة القانون الخاص (المسؤولية التقصيرية المنصوص عليها في قانون الالتزامات والعقود) وأدخلته في صميم القانون العام، مما يجعل القاضي الإداري هو "قاضيه الطبيعي".
هذا الموقف الحاسم يؤكد على أن ولاية القضاء الإداري في هذا المجال ليست استثناءً، بل هي القاعدة الأصلية كلما تعلق الأمر بمساءلة الدولة عن الأضرار الناتجة عن تسيير مرافقها. فالمحكمة الابتدائية، بقبولها النظر في الدعوى، تكون قد تجاهلت الطبيعة الإدارية الخالصة للنزاع، وهو ما استدركته محكمة النقض بحكم الإلغاء والتصريح باختصاص القضاء الإداري.
المبحث الثاني: الأسس القانونية والآثار العملية لتوجه محكمة النقض
إن المبدأ الذي أقرته محكمة النقض في هذا القرار لا يأتي من فراغ، بل يجد سنده المتين في النص القانوني الصريح، ويستند إلى تراكم قضائي رسخ معالم الاختصاص، كما أن له آثاراً عملية بالغة الأهمية على صعيد تحقيق الأمن القانوني.
المطلب الأول: التأصيل القانوني والقضائي لمبدأ الاختصاص
يجد هذا التوجه سنده التشريعي المباشر في المادة 8 من القانون رقم 41.90 المحدث للمحاكم الإدارية، التي تنص صراحة على اختصاص هذه المحاكم بالبت في "دعاوى التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام...". فالمؤسسة التعليمية العمومية هي بلا شك "شخص من أشخاص القانون العام"، والحادثة التي يتعرض لها التلميذ داخلها أو أثناء وجوده تحت رقابتها تقع حتماً نتيجة "نشاط" هذا المرفق.
وقد جانب الصواب تماماً الدفع الذي يمكن أن يثار أحياناً بكون المسؤولية مدنية الطابع وتخضع للقضاء العادي، لأن مناط الاختصاص ليس هو طبيعة الضرر، بل هوية المتسبب فيه وصفته. فبمجرد أن يكون المتسبب في الضرر شخصاً عاماً ويتصرف في إطار تسيير مرفق عمومي، فإن قواعد القانون الإداري هي التي تسود، والقاضي الإداري هو الذي يختص.
وعلى الصعيد القضائي، فإن هذا القرار ليس منعزلاً، بل هو تأكيد وتكريس لتوجه قضائي ثابت ومستقر لمحكمة النقض، التي عملت على مر السنين على توحيد الاجتهاد في هذا الباب، وقطعت الطريق أمام أي تضارب محتمل بين أحكام القضاء العادي وأحكام القضاء الإداري. فمن خلال حصر ولاية النظر في هذه المنازعات بيد القاضي الإداري، تضمن محكمة النقض تطبيقاً موحداً لمفاهيم المسؤولية الإدارية، سواء كانت قائمة على الخطأ المرفقي أو على أساس المخاطر.
المطلب الثاني: الأثر العملي: نحو تحقيق الأمن القانوني والعدالة المتخصصة
إن لهذا التكريس القضائي آثاراً عملية إيجابية متعددة.
أولاً، أنه يحقق الأمن القانوني للمتقاضين، إذ يصبح من الواضح والمؤكد لدى الضحايا ومحاميهم أن الطريق الوحيد للمطالبة بالتعويض في مثل هذه الحالات هو اللجوء مباشرة إلى المحكمة الإدارية المختصة. وهذا يجنبهم تضييع الوقت والجهد والمصاريف في سلوك مسطرة أمام جهة قضائية ستصرح في النهاية بعدم اختصاصها.
ثانياً، أنه يعزز مبدأ القضاء المتخصص. فالقاضي الإداري، بحكم تكوينه وخبرته، هو الأقدر على فهم وتحليل النزاع في أبعاده الإدارية الخالصة. فهو لا يكتفي بتطبيق قواعد المسؤولية المدنية التقليدية، بل يستحضر مبادئ القانون العام، كالتوازن بين حقوق الأفراد ومتطلبات سير المرافق العامة، وتقدير الخطأ المرفقي الذي قد يكون نتيجة سوء التنظيم أو الإهمال أو التقصير في الرقابة، وهي مفاهيم دقيقة تخرج عن نطاق القانون الخاص.
ثالثاً، إن إحالة الملف على المحكمة الإدارية بالرباط، كما قضى بذلك القرار، هو تطبيق سليم لقواعد الاختصاص الترابي، مما يضمن أن ينظر في النزاع قاضٍ قريب من المركز الإداري للدولة، والذي غالباً ما يكون طرفاً في مثل هذه الدعاوى.
خاتمة:
في ختام هذا التحليل، نخلص إلى أن قرار محكمة النقض عدد 1/256 ليس مجرد قرار عابر في قضية فردية، بل هو لبنة أساسية في صرح الاجتهاد القضائي المغربي، يعكس توجهاً عاماً، واعياً وثابتاً، يهدف إلى ترسيخ ولاية القضاء الإداري كحصن طبيعي لمنازعات المسؤولية المترتبة عن نشاط المرافق العمومية.
لقد أكدت محكمة النقض، من خلال هذا القرار، على أن مسؤولية الدولة عن الحوادث المدرسية ليست مجرد تطبيق آلي لقواعد المسؤولية التقصيرية، بل هي جزء لا يتجزأ من قانون المسؤولية الإدارية، بما له من قواعد ومفاهيم خاصة، وبما يقتضيه من قاضٍ متخصص.
والخلاصة العملية التي يمكن استخلاصها وتوجيهها لكافة المهتمين بالشأن القضائي، هي أن الخط الفاصل الذي رسمه الاجتهاد القضائي واضح وحاسم: كل دعوى ترمي إلى مساءلة مؤسسة تعليمية عمومية عن ضرر لحق بتلميذ هي دعوى إدارية بامتياز، مكانها الأصيل والوحيد هو المحكمة الإدارية. وأي محاولة لسلوك طريق القضاء العادي مآلها الحتمي هو الحكم بعدم الاختصاص، وهو ما يجسد حكمة القضاء في وضع كل نزاع في إطاره القانوني الصحيح ضماناً لحسن سير العدالة.
إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة

