اقتصاد الظل في التعليم المغربي: تشريح كرونولوجي لخصخصة الحق وتفكيك المدرسة العمومية



مقدمة: المدرسة العمومية بين المبدأ المؤسس والواقع المتآكل

إن التحليل العميق لواقع منظومة التربية والتكوين في المغرب يكشف عن مفارقة صارخة بين الخطاب الرسمي الذي يكرس مبدأ التعليم كحق دستوري وخدمة عمومية، والواقع الميداني الذي يشهد تآكلاً ممنهجاً للمدرسة العمومية ونشوء اقتصاد موازٍ، أو ما يمكن الاصطلاح عليه بـ "اقتصاد الظل في التعليم". لا يمكن فهم هذه الظاهرة باعتبارها مجرد نتاج لفشل عرضي أو سوء تدبير ظرفي، بل هي، كما سيبرهن هذا التقرير، نتيجة منطقية لمسار سياسي وتشريعي متدرج ومدروس، امتد على مدى ربع قرن، وأفضى إلى تحويل التعليم تدريجياً من حق أساسي تكفله الدولة وتضمن جودته للجميع، إلى خدمة سوقية يتم التنافس عليها، مما كرّس واقعاً جديداً يمكن وصفه بـ "خصخصة الحق" في التعليم، وأدى إلى تفكيك ممنهج لوظيفة المدرسة العمومية كأداة للارتقاء الاجتماعي وتحقيق العدالة.

لفهم أبعاد هذه الإشكالية، لا بد من تحديد دقيق للمفاهيم المركزية التي تؤطر هذا التحليل:

  • اقتصاد الظل في التعليم: لا يقتصر هذا المفهوم على قطاع التعليم الخاص المنظم قانونياً، بل يمتد ليشمل منظومة مزدوجة ومتكاملة. يتكون شقها الأول من السوق الرسمية المتمثلة في المدارس الخصوصية التي تستقطب شرائح اجتماعية قادرة على تحمل تكاليفها الباهظة. أما الشق الثاني، فهو السوق الموازية غير الرسمية، والتي تتجسد في ظاهرة "الساعات الإضافية" أو الدروس الخصوصية، التي تحولت من دعم تربوي استثنائي إلى ضرورة شبه حتمية لتعويض النقص الحاصل في التعليم العمومي. كلا الشقين يقتات على ضعف المنظومة العمومية ويساهم في الوقت ذاته في تعميق هذا الضعف في حلقة مفرغة.
  • خصخصة الحق: يتجاوز هذا المفهوم مجرد فرض رسوم على التعليم. إنه يشير إلى عملية أكثر تعقيداً ودهاءً، تتمثل في إفراغ الحق في التعليم المجاني من قيمته الفعلية. فعندما تتخلى الدولة عن ضمان الجودة في المدرسة العمومية، وتسمح بنشوء نظام تعليمي متعدد السرعات، يصبح التعليم الجيد حكراً على من يمتلك القدرة المادية لشرائه من السوق الخاصة أو الموازية. بهذا، يتحول الحق الدستوري من حق مكفول للجميع إلى امتياز طبقي، وهو جوهر عملية "خصخصة الحق".
  • تفكيك المدرسة العمومية: هي عملية إضعاف بنيوية ومستمرة تطال كافة مقومات المدرسة العمومية: بنيتها التحتية، مواردها البشرية، جاذبيتها، والثقة المجتمعية فيها. هذا التفكيك ليس مجرد إهمال، بل هو نتيجة مباشرة لسياسات عامة أدت إلى هجرة الكفاءات من أساتذة وتلاميذ، وتكريس صورة نمطية سلبية عنها، مما أفقدها دورها التاريخي كرافعة للعدالة الاجتماعية والمساواة في الفرص.

سيتتبع هذا التقرير، بمنهجية كرونولوجية تحليلية، هذا المسار المفصلي في تاريخ التعليم المغربي، منطلقاً من الميثاق الوطني للتربية والتكوين عام 1999، مروراً بالرؤية الاستراتيجية 2015-2030، ثم القانون الإطار 51.17، وصولاً إلى النظام الأساسي الجديد لهيئة التدريس واللحظة الراهنة، لكشف الآليات السياسية والتشريعية التي قادت إلى الوضع الحالي.

الفصل الأول: الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999) - بذور التحول الفلسفي والتشريعي

شكل الميثاق الوطني للتربية والتكوين، الذي صدر في أكتوبر 1999، وثيقة تأسيسية طموحة لإصلاح التعليم في المغرب، وحمل في طياته آمالاً عريضة لتجاوز أزمات المنظومة القائمة. إلا أن قراءة متأنية ونقدية لبنوده تكشف عن خطاب مزدوج، يحمل في ظاهره طموحاً إصلاحياً نبيلاً، وفي باطنه بذور التحول الذي سيمهد الطريق لخصخصة الحق في التعليم.

الخطاب المزدوج للميثاق

لقد صيغ الميثاق بلغة تجمع بين المبادئ التربوية السامية والبراغماتية الاقتصادية، مما خلق وثيقة ذات وجهين متناقضين:

الوجه الأول: الطموح الإصلاحي والتجديدي: كرس الميثاق في قسمه الأول ومجالاته المتعددة مجموعة من المبادئ التربوية الحديثة التي لاقت ترحيباً واسعاً. فقد نص على "جعل المتعلم بوجه عام، والطفل على الأخص، في قلب الاهتمام والتفكير والفعل"، وهو ما يمثل قطيعة مع المقاربات التلقينية التقليدية. كما دعا إلى بناء "مدرسة مغربية وطنية جديدة مفعمة بالحياة... ومفتوحة على محيطها"، وربط مخرجات التعليم بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد، مع التأكيد على ترسيخ الهوية الوطنية وقيمها الدينية والحضارية. هذه المبادئ شكلت الإطار الفلسفي لمدرسة عمومية قوية، فاعلة، ومنصفة.

الوجه الثاني: فتح الباب للشراكة والتمويل المتنوع: في المقابل، حمل الميثاق في طياته، وتحديداً في المجال السادس المعنون بـ "الشراكة والتمويل"، مفاهيم جديدة على القاموس التربوي الرسمي. فقد خصصت الدعامة الثامنة عشرة لـ "حفز قطاع التعليم الخاص وضبط معاييره وتسييره" و"تعبئة موارد التمويل وترشيد تدبيرها". هذه اللغة، على الرغم من حذرها الظاهري وتقديمها للقطاع الخاص كـ "شريك" و"مسهم"، شكلت المدخل الأيديولوجي والتشريعي الأول لإعادة تعريف دور الدولة في قطاع التعليم. لم يعد دور الدولة هو الموفر والممول الحصري للخدمة التعليمية، بل أصبحت فاعلاً رئيسياً إلى جانب شركاء آخرين.

المسار الخفي من "الشراكة" إلى "الخصخصة"

إن الإرث الحقيقي للميثاق الوطني لا يكمن في المبادئ الإصلاحية التي أعلنها، والتي ظل الكثير منها حبراً على ورق، بل في التحول الفلسفي العميق الذي أحدثه. لقد تم الانتقال من نموذج تكون فيه الدولة هي المسؤول الأوحد عن توفير وتمويل التعليم، إلى نموذج جديد قائم على "المسؤولية المشتركة". هذا التحول لم يكن بريئاً، بل كان الخطوة الأولى في مسار طويل نحو الخصخصة.

فبمجرد إدخال مصطلح "الشراكة" (الشراكة) وإضفاء الشرعية على دور القطاع الخاص، لم يعد هذا الأخير مجرد بديل ثانوي أو مكمل، بل أصبح فاعلاً أساسياً في المنظومة. وبالمثل، فإن الدعوة إلى "تنويع مصادر التمويل" (تعبئة موارد التمويل) فتحت الباب أمام نقاش لم يكن مطروحاً من قبل حول مساهمة فاعلين آخرين غير الدولة، بما في ذلك الأسر، في تحمل كلفة التعليم.

لم يكن الميثاق وثيقة خصخصة صريحة، ولكنه كان الوثيقة التي وفرت الغطاء الفلسفي والشرعية السياسية اللازمين للخطوات التي ستأتي لاحقاً. لقد أرسى الأساس لمفهوم "المسؤولية المشتركة"، وهو المفهوم الذي سيتم توظيفه بكثافة في المراحل اللاحقة لتبرير التراجع التدريجي للدولة عن التزاماتها الكاملة تجاه المدرسة العمومية، وتمرير عبء التمويل إلى المجتمع. وبهذا المعنى، فإن الميثاق، رغم نواياه المعلنة، كان بمثابة حصان طروادة الذي حمل في جوفه بذور تفكيك مبدأ التعليم كحق عمومي مطلق.

الفصل الثاني: الرؤية الاستراتيجية للإصلاح (2015-2030) - التحول الأيديولوجي نحو التمويل المتنوع

إذا كان الميثاق الوطني قد زرع بذور التحول الفلسفي، فإن الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030، التي أعدها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، كانت بمثابة الماء الذي روى تلك البذور لتنمو وتترسخ كتوجه استراتيجي للدولة. لقد شكلت هذه الوثيقة نقلة نوعية وجريئة في الخطاب الرسمي، حيث انتقلت من لغة "الشراكة" الحذرة إلى دعوة صريحة ومباشرة لإعادة هيكلة تمويل التعليم، ووضعت مساهمة الأسر في قلب هذا النقاش.

من الشراكة إلى المساهمة: إعادة تعريف العقد الاجتماعي

لم تعد الرؤية الاستراتيجية تكتفي بالحديث عن "الشراكة" مع القطاع الخاص، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث جعلت من "تنويع مصادر تمويل المنظومة التربوية" رافعة أساسية من رافعات الإصلاح. استندت في ذلك، كما تدعي، إلى الميثاق الوطني، لكنها في الواقع دفعت بمنطوقه إلى أقصى حدوده. لقد أكدت على أن الدولة ستظل تتحمل القسط الأوفر من التمويل، لكنها في الوقت نفسه فتحت الباب على مصراعيه لمساهمة أطراف أخرى، وعلى رأسها الجماعات الترابية، والمؤسسات العمومية، والقطاع الخاص، والأهم من ذلك كله، الأسر.

النقطة المفصلية: تقنين مساهمة الأسر

تكمن الجرأة الحقيقية للرؤية الاستراتيجية في توصيتها التي شكلت نقطة مفصلية في تاريخ السياسات التعليمية بالمغرب. ففي تطابق مع مداولات المجلس الأعلى، أوصت الرؤية بـ "إحداث رسوم التسجيل في التعليم ما بعد الإلزامي (التعليم الثانوي التأهيلي والتعليم العالي)". هذا المقترح، الذي يمس بشكل مباشر مبدأ المجانية، لم يقدم بشكل فج، بل تم تغليفه بخطاب سياسي محكم يهدف إلى امتصاص الصدمة وتمريره بسلاسة.

لقد تم تقديم هذا الإجراء تحت غطاء "تفعيل التضامن الوطني والتكافؤ"، مع وضع مجموعة من الشروط التي تبدو في ظاهرها منصفة، مثل "الإعفاء الآلي للأسر المعوزة"، و"اعتماد التدرج في الإقرار والتطبيق"، وربط الأمر بتحقيق "الارتقاء بجودة التربية والتكوين". والأهم من ذلك، أوصت الرؤية بـ "إنجاز دراسة حول مقدرة الأسر على المساهمة"، تهدف إلى "تحديد الإعفاءات، وسقف رسوم التسجيل".

هندسة القبول المجتمعي بالخصخصة

لم تكن هذه التوصيات مجرد اقتراحات تقنية، بل كانت عملية متكاملة لهندسة القبول المجتمعي والسياسي بفكرة إنهاء المجانية الشاملة للتعليم. يمكن تفكيك هذه الاستراتيجية إلى عدة خطوات:

  • تجنب المواجهة المباشرة: إدراكاً منها بأن فرض رسوم مباشرة سيثير غضباً شعبياً عارماً، لم تقترح الرؤية فرض الرسوم فوراً، بل أوصت بـ "دراسة" الموضوع. هذه الخطوة تخدم هدفين: تأجيل القرار لتهدئة المخاوف الآنية، وفي الوقت نفسه، تطبيع فكرة الدفع وجعلها موضوعاً قابلاً للنقاش العام.
  • استخدام الخطاب التضامني: تم تأطير مساهمة الأسر ليس كـ "رسم" مقابل خدمة، بل كفعل "تضامني" (تضامن). هذا المصطلح الإيجابي يهدف إلى نزع سلاح النقد، وتقديم الأسر الميسورة التي ستدفع كأطراف متضامنة مع الدولة والأسر المعوزة.
  • الربط بالجودة والتدرج: تم ربط فرض الرسوم بتحسين الجودة، وهو مطلب شعبي، كما أن قصرها على التعليم ما بعد الإلزامي جعلها تبدو أكثر واقعية.

بهذا المعنى، كانت الرؤية الاستراتيجية بمثابة "بالون اختبار" سياسي ومجتمعي، ومرحلة حاسمة في الانتقال من الفكرة إلى المشروع. لقد مهدت الطريق بشكل فعال للخطوة التالية، وهي ترجمة هذه التوصيات إلى بنية قانونية ملزمة، وهو الدور الذي سيقوم به القانون الإطار 51.17.

الفصل الثالث: القانون الإطار 51.17 - البنية القانونية للخصخصة الصامتة

إذا كانت الرؤية الاستراتيجية قد وضعت المخطط الأيديولوجي، فإن القانون الإطار رقم 51.17، الصادر في غشت 2019، جاء ليوفر البنية التشريعية والهيكل القانوني الملزم لتنزيل هذا المخطط على أرض الواقع. يُعتبر هذا القانون "تحفة" تشريعية في تكريس ما يمكن تسميته بـ"الخصخصة الصامتة"، حيث يجمع في نصوصه بين تأكيد مبدأ المجانية اسمياً وتقويضه فعلياً، مما يجسد التناقض المركزي الذي يحكم سياسة التعليم في المغرب.

التناقض المركزي: بين ضمان المجانية وتقنين التمويل المتعدد

يكمن جوهر الإشكالية في القانون الإطار في التناقض الصارخ بين بعض مواده. فمن جهة، تأتي المادة 45 لتقدم ضمانة تبدو قوية وحاسمة، حيث تنص بشكل لا لبس فيه على أن "الدولة تضمن مجانية التعليم العمومي في جميع أسلاكه وتخصصاته". هذه المادة، التي تم الترويج لها بكثافة لتهدئة الرأي العام، تبدو وكأنها تحسم الجدل وتؤكد التزام الدولة بالعقد الاجتماعي التاريخي.

ولكن من جهة أخرى، تأتي مواد أخرى في نفس القانون لتنسف هذا المبدأ من أساسه عبر آليات قانونية محكمة:

المادة 46 تنص على ضرورة "تنويع مصادر تمويل" المنظومة، وتدعو إلى تفعيل "التضامن الوطني والقطاعي" عبر "مساهمة جميع الأطراف والشركاء المعنيين، وخصوصا منهم الجماعات الترابية والمؤسسات والمقاولات العمومية والقطاع الخاص". هذه المادة تحول المسؤولية من الدولة وحدها إلى مسؤولية جماعية، مما يخفف العبء قانونياً عن الدولة.

المادة 47 تذهب أبعد من ذلك، حيث تنص على "إحداث صندوق خاص" يتم تمويله في إطار الشراكة من طرف الدولة والمؤسسات العمومية و"مساهمات القطاع الخاص وباقي الشركاء". هذا يعني خلق آلية قانونية لجمع الأموال من خارج الميزانية العامة للدولة، وتكريس التمويل المتعدد كواقع مؤسساتي.

المادة 44 تلزم الدولة بوضع "إطار تعاقدي استراتيجي شامل" يحدد مساهمة القطاع الخاص في تمويل المنظومة وتطويرها، مما يمنح هذا القطاع دوراً محورياً ورسمياً في رسم معالم السياسة التعليمية.

القانون كأداة لتكريس "واقع الأمر"

إن خطورة القانون الإطار 51.17 لا تكمن في أنه "ابتدع" الخصخصة، بل في أنه جاء ليضفي الشرعية القانونية على مسار كان قد بدأ بالفعل. بحلول عام 2019، كان التعليم الخاص قد توسع بشكل كبير، وكان تدهور المدرسة العمومية واقعاً ملموساً. لذلك، لم يكن دور القانون هو إطلاق مسار الخصخصة بقدر ما كان "تقنين" و"تسريع" هذا المسار.

إن "عبقرية" هذا النص التشريعي، وخطورته في آن واحد، تكمن في غموضه المحسوب. فمن خلال الحفاظ على "مجانية التعليم" في مادة معزولة، مع فتح الباب على مصراعيه للتمويل الخاص والشراكات في مواد أخرى، خلق القانون منطقة رمادية واسعة. هذه المنطقة الرمادية تسمح للدولة بالادعاء بأنها تفي بالتزاماتها الدستورية تجاه المواطنين، بينما هي في الواقع تتبع سياسات تفرغ هذا الالتزام من محتواه.

هذا هو جوهر "الخصخصة الصامتة": تآكل تدريجي ومستمر للمنظومة العمومية تحت غطاء لغة قانونية تبدو محايدة أو حتى إيجابية ("شراكة"، "تنويع"، "جودة"، "تضامن"). القانون الإطار 51.17 لم يلغِ الحق في التعليم، ولكنه أعاد تعريفه بشكل جذري. لقد حول دور الدولة من "الموفر والممول والضامن" للخدمة التعليمية، إلى مجرد "منظم لسوق تعليمية" يتنافس فيها فاعلون متعددون، وتُترك فيها الأسر لمواجهة مصيرها حسب قدرتها الشرائية. وبهذا، أصبح القانون هو الأداة النهائية التي كرست "خصخصة الحق" من خلال الحفاظ على شكل الحق (المجانية الاسمية) مع تفريغه من مضمونه (الجودة وتكافؤ الفرص).

الفصل الرابع: اقتصاد الظل عملياً: منظومة ذات مسارين

إن السياسات التي تم تحليلها في الفصول السابقة لم تبق مجرد نصوص نظرية، بل تجسدت على أرض الواقع في شكل نظام تعليمي مشطور، يعمل بسرعتين مختلفتين. هذا النظام يتكون من سوقين متوازيين: سوق رسمية هي التعليم الخصوصي، وسوق غير رسمية هي الساعات الإضافية. وكلاهما يمثلان التجلي العملي لاقتصاد الظل الذي أفرزته عملية تفكيك المدرسة العمومية.

الجزء الأول: السوق الرسمية - تمدد التعليم الخصوصي

شهد قطاع التعليم الخاص في المغرب نمواً مطرداً خلال العقدين الماضيين، مدفوعاً بتشجيع الدولة وتآكل الثقة في المدرسة العمومية. هذا النمو لم يكن عشوائياً، بل اتبع منطقاً طبقياً وجغرافياً واضحاً، مما عمق الفوارق الاجتماعية والتعليمية في البلاد.

هيمنة رقمية وجغرافية: تشير الإحصائيات إلى أن التعليم الخصوصي يستحوذ على ما يقارب 18% من إجمالي التلاميذ المتمدرسين في المغرب. وقد شهدت هذه النسبة ارتفاعاً ملحوظاً، حيث انتقلت من حوالي 16% في موسم 2020-2021 إلى 17.8% في موسم 2022-2023، بعد تراجع طفيف خلال جائحة كورونا. الأهم من ذلك هو التركز الجغرافي لهذا القطاع؛ إذ تستحوذ ثلاث جهات فقط، تعتبر الأكثر غنى (الدار البيضاء-سطات، الرباط-سلا-القنيطرة، وفاس-مكناس)، على أكثر من 60% من مجموع مؤسسات التعليم الخاص في البلاد. هذا التوزيع يكشف أن التعليم الخاص ليس بديلاً وطنياً، بل هو خدمة موجهة أساساً للمناطق الحضرية والشرائح الاجتماعية الميسورة.

فجوة الأداء والتكاليف: تؤكد الدراسات الدولية، مثل برنامج "PISA"، وجود فارق في الأداء لصالح تلاميذ المدارس الخاصة في المغرب يصل إلى 35 نقطة، وهو فارق يعود بالأساس إلى "وجود فوارق اقتصادية واجتماعية وثقافية" بين مرتادي القطاعين. هذه الجودة المزعومة تأتي بتكلفة باهظة جداً على الأسر. فالرسوم الشهرية تتراوح بشكل كبير، حيث يمكن أن تبدأ من مبالغ متوسطة وتصل إلى 6000 درهم شهرياً في بعض المؤسسات بالدار البيضاء. يضاف إلى ذلك رسوم التسجيل وإعادة التسجيل التي قد تصل إلى 1600 درهم، ورسوم التأمين التي تفرضها المدارس بمبالغ تتراوح بين 800 و 1500 درهم، في حين أن تكلفتها الحقيقية لا تتجاوز 60 درهماً. هذه التكاليف تجعل التعليم الخاص استثماراً ضخماً ومحصوراً في فئة اجتماعية معينة، مما يخلق نظاماً تعليمياً طبقياً بامتياز.

الجزء الثاني: السوق غير الرسمية - استفحال ظاهرة الساعات الإضافية

بموازاة نمو التعليم الخاص، انفجرت ظاهرة الساعات الإضافية، أو ما يعرف شعبياً بـ "السوايع"، لتتحول من حل فردي ومؤقت إلى سوق موازية منظمة، بل وإلى مكون أساسي في "اقتصاد الظل التعليمي".

  • من الدعم التربوي إلى السوق الموازية: قبل عقدين من الزمن، كان اللجوء إلى الساعات الإضافية محدوداً، يقتصر على التلاميذ المتعثرين وفي مواد معينة. أما اليوم، فقد أصبحت "موضة" وظاهرة اجتماعية شاملة، يلجأ إليها الجميع، من المتعثر إلى المتوسط وحتى المتميز، وأصبحت الأسر تعتبرها جزءاً لا يتجزأ من المسار الدراسي لأبنائها، بل أولوية تسبق شراء اللوازم المدرسية. لقد تحولت من منطق "الدعم التربوي" إلى منطق "السوق والسلعة"، حيث يتم الترويج لها بإعلانات وتسويق احترافي.

الأسباب المتشابكة للظاهرة:

هذا التحول لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة تقاطع عدة عوامل:

  1. تهاوي جودة التعليم العمومي: يعتبر تردي المستوى الدراسي في المدرسة العمومية السبب الرئيسي الذي يدفع الأسر إلى البحث عن بدائل. فمشاكل مثل الاكتظاظ، ضعف تكوين بعض الأساتذة، وتأثير الإضرابات المتكررة، تجعل التحصيل داخل القسم غير كافٍ، مما يخلق "حاجة" مصطنعة لهذه الدروس.
  2. الضغط الاجتماعي والمنافسة: لم تعد الساعات الإضافية مجرد حاجة بيداغوجية، بل أصبحت أيضاً استجابة لضغط اجتماعي. فالأسر تتنافس فيما بينها لإظهار الاهتمام بمستقبل أبنائها، وأصبح عدم تسجيل الأبناء في "السوايع" يُنظر إليه كنوع من الإهمال
  3. الحافز المادي لبعض الأساتذة: يرى البعض أن ضعف الأجور وتدهور الوضع الاعتباري للمدرس يدفع قلة منهم إلى استغلال حاجة التلاميذ لخلق سوق خاصة بهم، وأحياناً عبر الإيحاء بضرورة هذه الدروس أو عدم إعطاء كل ما لديهم داخل القسم.
  4. الأثر الاقتصادي والنفسي: تشكل الساعات الإضافية عبئاً مالياً هائلاً على الأسر المغربية، حيث يمكن أن تصل تكلفة الساعة الواحدة إلى 400 درهم في بعض الحالات، خاصة في المواد العلمية والمستويات الإشهادية. لكن الأثر لا يقتصر على الجانب المادي، بل يمتد إلى الجانب النفسي للتلاميذ. فالكثير منهم يعيشون في حالة من الإرهاق الدائم، متنقلين بين ساعات الدراسة الطويلة في المدرسة وساعات إضافية في المساء وعطل نهاية الأسبوع، مما يحرمهم من طفولتهم ويضعهم تحت ضغط نفسي هائل لتحقيق نتائج تفوق طاقاتهم.

الفصل الخامس: العامل البشري - النظام الأساسي الجديد (2024) ومآل المدرس العمومي

لا يمكن فهم ديناميكية تفكيك المدرسة العمومية ونشوء اقتصاد الظل بمعزل عن العامل الحاسم في أي منظومة تربوية: المورد البشري. لقد كان تدهور الوضع المادي والمعنوي لهيئة التدريس، وتفاقم أزمة الثقة بينها وبين الدولة، أحد المحركات الأساسية التي سرعت من وتيرة هجرة الأسر نحو التعليم الخاص والساعات الإضافية. وفي هذا السياق، يأتي النظام الأساسي الجديد لموظفي قطاع التربية الوطنية لسنة 2024 كمحاولة لمعالجة هذا الاحتقان العميق، لكنه يواجه تحديات بنيوية قد تجعل أثره محدوداً.

سياق الأزمة: إرث نظام "التعاقد"

شكل فرض نظام التوظيف بالتعاقد ابتداءً من سنة 2016 منعرجاً خطيراً في تاريخ مهنة التدريس بالمغرب. لقد خلق هذا النظام وضعاً من الهشاشة وعدم الاستقرار المهني والاجتماعي لدى عشرات الآلاف من "الأساتذة أطر الأكاديميات"، الذين وجدوا أنفسهم في وضعية قانونية وإدارية مختلفة عن زملائهم الموظفين العموميين، رغم قيامهم بنفس المهام. أدى هذا الوضع إلى سنوات من الاحتجاجات والإضرابات المتواصلة، التي لم تؤثر فقط على الزمن المدرسي للتلاميذ، بل عمقت أيضاً أزمة المنظومة ككل.

لقد كان لبرامج مثل المغادرة الطوعية (2005) ونظام التعاقد أثر مدمر على الرأسمال البشري للمدرسة العمومية. فقد أدت إلى هجرة الكفاءات ذات الخبرة نحو التقاعد أو نحو القطاع الخاص الذي قدم عروضاً أفضل، بينما تم سد الخصاص بأساتذة جدد يفتقرون في كثير من الأحيان إلى التكوين الكافي ويُعينون في ظروف عمل غير مستقرة. هذه السياسات أدت إلى خلق صورة سلبية عن المدرس العمومي، وقدمت مبرراً إضافياً للأسر للبحث عن بدائل في السوق الخاصة، التي روجت لنفسها كفضاء يضم أساتذة أكثر كفاءة واستقراراً.

النظام الأساسي الموحد: من الرفض إلى التسوية الصعبة

في خضم هذا السياق المتأزم، جاءت محاولة الحكومة فرض نظام أساسي جديد (مرسوم رقم 2.23.819) في أكتوبر 2023 لتصب الزيت على النار. فبدلاً من أن يكون حلاً، أثار هذا النظام موجة رفض عارمة وغير مسبوقة، حيث اعتبرته فئات واسعة من هيئة التدريس "مكرساً للعبودية" ومضيفاً لمهام جديدة دون تعويضات مالية مقابلة، خاصة في التعليم الابتدائي. كما انتقد البعض تركيز التعويضات الجديدة على الأطر الإدارية دون أساتذة الأقسام.   

هذا الرفض الشامل أدى إلى إضرابات واسعة شلت المدرسة العمومية لأشهر، ودفعت الحكومة إلى العودة لطاولة الحوار تحت ضغط الشارع. توج هذا المخاض العسير بتوقيع اتفاقي 10 و26 دجنبر 2023 بين الحكومة والنقابات التعليمية الأكثر تمثيلية، واللذين أقرا زيادة عامة في الأجور بمقدار 1500 درهم شهرياً على دفعتين. والأهم من ذلك، نص الاتفاق على النسخ الكامل للنظام الأساسي المرفوض.   

وبناءً على ذلك، صدر نظام أساسي جديد ومعدل بموجب المرسوم رقم 2.24.140 في فبراير 2024، والذي استجاب للمطلب الجوهري للشغيلة التعليمية بإنهاء ملف "التعاقد". حيث نصت المادة الثانية منه بشكل صريح على أن "يعين الموظفون الخاضعون لهذا النظام الأساسي الخاص في وظيفة قارة"، مما يدمج جميع الأطر في نظام موحد ويقطع نظرياً مع سنوات الهشاشة المهنية. 

أثر تدهور الرأسمال البشري على المنظومة

إن أزمة الموارد البشرية التي شهدها قطاع التعليم لم تكن مجرد قضية نقابية أو قطاعية، بل كانت عاملاً استراتيجياً في تسريع وتيرة الخصخصة الصامتة. يمكن تتبع هذا المسار كالتالي:

  1. سياسات التقشف والتوظيف الهش (التعاقد) أدت إلى خلق قوة عاملة غير مستقرة، محبطة، وفي بعض الأحيان غير مؤهلة بما يكفي.
  2. هذا الوضع أثر سلباً على جودة التعليم داخل الفصول الدراسية، وزاد من حدة المشاكل القائمة كالاكتظاظ.
  3. شكل هذا التدهور في جودة "العرض العمومي" دافعاً قوياً للأسر للبحث عن بدائل، مما زاد الطلب على المدارس الخاصة والساعات الإضافية.
  4. بهذا، أصبح تدهور وضع الأستاذ العمومي ليس فقط نتيجة لأزمة المدرسة العمومية، بل سبباً مباشراً في تغذية اقتصاد الظل التعليمي.

يأتي النظام الأساسي الجديد بصيغته المعدلة كمحاولة لتصحيح هذا المسار، وإعادة الاستقرار والثقة والجاذبية لمهنة التدريس. ولكن السؤال الحاسم هو: هل هذه المحاولة أتت متأخرة جداً؟ لقد ترسخ اقتصاد الظل وأصبح بنية قائمة بذاتها، وتعمقت الفجوة بين التعليم العمومي والخاص، وتغيرت العقليات والتوقعات لدى الأسر. قد ينجح النظام الجديد في إيقاف نزيف الموارد البشرية، لكنه يواجه تحدياً هائلاً يتمثل في قدرته على عكس مسار عقدين من التفكيك الممنهج، وإعادة بناء الثقة في مدرسة عمومية أصبحت الخيار الثاني في أذهان شريحة واسعة من المجتمع.

الفصل السادس: خارطة الطريق (2022-2026) و"مدرسة الريادة" - الإصلاح الانتقائي أم التفكيك المستمر؟

في خضم الأزمة البنيوية التي تم تشريحها، تأتي "خارطة الطريق 2022-2026 من أجل مدرسة عمومية ذات جودة للجميع" كأحدث محاولة إصلاحية كبرى. هذه الخارطة، التي تستند إلى القانون الإطار 51.17 والنموذج التنموي الجديد، تقدم نفسها كورقة عمل استراتيجية تهدف إلى تحقيق "نهضة تربوية" محورها المدرسة العمومية. ويُعتبر مشروع "مؤسسات الريادة" هو الأداة التنفيذية الرئيسية لهذه الخارطة.   

خارطة الطريق: خطاب العودة إلى المدرسة العمومية

تضع خارطة الطريق ثلاثة أهداف استراتيجية طموحة بحلول عام 2026: مضاعفة نسبة التلاميذ المتحكمين في التعلمات الأساسية، مضاعفة نسبة المستفيدين من الأنشطة الموازية، وتقليص الهدر المدرسي بمقدار الثلث. ولتحقيق ذلك، ترتكز على ثلاثة محاور: التلميذ، الأستاذ، والمؤسسة التعليمية.   

من حيث الخطاب، تمثل هذه الخارطة تحولاً مهماً، فهي تعيد التركيز بشكل صريح على "المدرسة العمومية" بعد سنوات من سياسات فتحت الباب على مصراعيه للقطاع الخاص. إنها اعتراف ضمني بفشل المقاربات السابقة في تحقيق الجودة والإنصاف، ومحاولة لإعادة بناء الثقة في المرفق العام.

"مدرسة الريادة": وصفة علاجية أم أداة تفكيك جديدة؟

مشروع "مؤسسات الريادة"، الذي انطلق تجريبياً في 628 مؤسسة ابتدائية سنة 2023 بهدف التوسع التدريجي، هو التجسيد العملي للخارطة. يقوم المشروع على أربع ركائز أساسية:   

  1. المكون البيداغوجي: يعتمد على مقاربتين "مستوردتين": مقاربة "TaRL" (التدريس وفق المستوى المناسب) لمعالجة التعثرات، ونهج "التعليم الصريح" لتقديم المعارف بشكل مباشر وفعال.   
  2. تكوين الأطر التربوية: يخضع الأساتذة والمديرون والمفتشون لتكوينات مكثفة وإشهادية لضمان تطبيق المقاربات الجديدة.   
  3. توفير الموارد: تجهيز المؤسسات بالمعدات الديداكتيكية والرقمية اللازمة (حواسيب، مسلاط...) وتأهيل فضاءاتها.   
  4. التحفيز المادي: منح تعويضات مالية للأطر التربوية المنخرطة في المشروع مرتبطة بتحقيق الأثر على تعلمات التلاميذ.   

تحليل نقدي: "الريادة" في سياق الخصخصة الصامتة

على الرغم من الأهداف النبيلة المعلنة، يثير مشروع "مؤسسات الريادة" انتقادات حادة تضعه في صلب إشكالية "تفكيك المدرسة العمومية" التي يروم معالجتها:

  • خلق مدرسة عمومية بسرعتين: يرى منتقدون أن المشروع، بدلاً من أن ينهض بالمدرسة العمومية ككل، يقوم بخلق "جزر تميز" داخلها. فمن خلال تركيز موارد مالية وبشرية وتكوينية استثنائية في عدد محدود من المؤسسات (مدارس الريادة)، يتم بشكل غير مباشر "تفقير" باقي المؤسسات التي لم يشملها المشروع بعد، والتي تستمر في العمل بنفس الإمكانيات المحدودة. هذا يخلق فجوة جديدة وخطيرة، ليست بين العام والخاص، بل داخل القطاع العام نفسه، مما يكرس منطق اللامساواة ويهدد مبدأ تكافؤ الفرص الذي نص عليه القانون الإطار.   

  • تجاوز الأطر المؤسساتية للإصلاح: من أبرز الانتقادات الموجهة للمشروع هو أنه لم يعرض على المجلس الأعلى للتربية والتكوين للمصادقة، كما أنه تجاوز "اللجنة الدائمة للمناهج والبرامج" التي نص عليها القانون الإطار 51.17 كآلية مؤسساتية لتجديد المقاربات البيداغوجية. هذا يجعل الإصلاح يبدو وكأنه مرتبط بوزير معين أكثر من كونه سياسة دولة مستدامة، مما يهدد استمراريته مع أي تغيير حكومي.   

  • التركيز على "الوصفات الجاهزة" بدل الحلول البنيوية: إن الاعتماد الكلي على مقاربات بيداغوجية مستوردة (مثل TaRL الهندية) دون تكييفها بشكل كافٍ مع السياق المغربي، ودون إشراك حقيقي للفاعلين التربويين في بنائها، يجعل المشروع يبدو كـ"وصفة علاجية" تقنية تعالج الأعراض (التعثر الدراسي) دون أن تمس الأسباب الجذرية للأزمة (الاكتظاظ، الوضع الاعتباري للأستاذ، المناهج، التقييم...).

في المحصلة، تضع خارطة الطريق ومشروع "مدرسة الريادة" المنظومة التعليمية أمام مفترق طرق. فإما أن تكون هذه التجربة هي المدخل الحقيقي لإعادة بناء المدرسة العمومية عبر تعميمها بشكل عادل وفعال، أو أنها ستتحول، بفعل آليات تطبيقها الانتقائية، إلى أحدث أداة لتكريس التفاوت، وخلق طبقة جديدة من "المدارس العمومية المحظوظة" على أنقاض الأغلبية المنسية، لتستمر بذلك، وبشكل أكثر تعقيداً، مسيرة "الخصخصة الصامتة" وتفكيك المدرسة العمومية.

خاتمة: من تفكيك المدرسة إلى إعادة بناء العقد الاجتماعي التربوي


لقد برهن هذا التحليل الكرونولوجي، المستند إلى تتبع السياسات والتشريعات والمؤشرات الميدانية، أن الوضع الحالي للمنظومة التعليمية في المغرب ليس قدراً محتوماً أو نتيجة لفشل غير مقصود. إن "اقتصاد الظل" الذي ينهش جسد التعليم، وتفكيك المدرسة العمومية الذي يهدد التماسك الاجتماعي، هما النتيجة المنطقية والمتوقعة لمسار سياسي واضح المعالم. لقد بدأ هذا المسار بفتح الباب فلسفياً لمفهوم "الشراكة" في الميثاق الوطني، ثم تعمق أيديولوجياً بالدعوة الصريحة لـ"مساهمة الأسر" في الرؤية الاستراتيجية، وتقنن تشريعياً عبر الآليات الغامضة والمزدوجة في القانون الإطار 51.17، ووصل اليوم إلى مرحلة "الإصلاح الانتقائي" عبر مشروع "مدارس الريادة" الذي يهدد بخلق فوارق جديدة داخل المدرسة العمومية نفسها. والنتيجة هي نظام تعليمي بسرعات متعددة، حيث تم "خصخصة الحق" في تعليم جيد، وأصبحت المدرسة العمومية، التي كانت يوماً ما أداة للارتقاء الاجتماعي، تعاني من نزيف حاد في مواردها المادية والبشرية والمعنوية.

إن الخروج من هذه الأزمة البنيوية لا يمكن أن يتم عبر إصلاحات ترقيعية أو حلول جزئية، بل يتطلب إرادة سياسية حقيقية لإعادة بناء "عقد اجتماعي تربوي" جديد، يعيد للتعليم مكانته كأولوية وطنية مطلقة وكحق أساسي غير قابل للتصرف. وفي هذا الإطار، يمكن تقديم التوصيات التالية على مستويات متعددة:

على المستوى التشريعي:

  1. مراجعة نقدية للقانون الإطار 51.17: يجب إعادة فتح نقاش وطني حول المواد المتعلقة بالتمويل (خاصة المواد 44، 46، و47) بهدف تعديلها لتأكيد مسؤولية الدولة كضامن أول وأساسي لتمويل تعليم عمومي مجاني وذي جودة عالية للجميع، وإغلاق الثغرات القانونية التي تسمح بالخصخصة الصامتة.
  2. إلغاء مبدأ مساهمة الأسر: يجب التخلي نهائياً عن فكرة فرض رسوم تسجيل أو مساهمات على الأسر في التعليم العمومي، بما في ذلك التعليم العالي، وتأكيد مبدأ المجانية الشاملة كحجر زاوية في العقد الاجتماعي.

على المستوى التنظيمي والرقابي:

  1. تنظيم صارم للقطاع الخاص: يجب وضع إطار قانوني واضح وشفاف ينظم عمل قطاع التعليم الخاص، ويشمل تسقيفاً لرسوم التسجيل والرسوم الشهرية، ومراقبة صارمة للمناهج المعتمدة، وضمان شروط عمل لائقة للعاملين به، ومنع أي شكل من أشكال الانتقاء المبني على القدرة المادية للتلاميذ.   
  2. تجريم ومحاربة الساعات الإضافية: إصدار نصوص قانونية واضحة تجرم تقديم أساتذة القطاع العمومي لدروس خصوصية مؤدى عنها لتلاميذهم، مع تفعيل آليات المراقبة والمحاسبة لضمان تطبيق هذا المنع، الذي غالباً ما يبقى حبراً على ورق.   

على المستوى الاستثماري:

  1. إطلاق "خطة مارشال" للمدرسة العمومية: تخصيص ميزانيات استثنائية وضخمة لإعادة تأهيل البنية التحتية للمدارس العمومية (تجديد المؤسسات، توفير التجهيزات الديداكتيكية والتكنولوجية، بناء المدارس في المناطق ذات الخصاص). ويجب أن يكون هذا الاستثمار شاملاً وعادلاً، يتجاوز منطق "المؤسسات الرائدة" ليشمل كل مدارس الوطن.

  2. الاستثمار في الرأسمال البشري: يجب أن يتجاوز إصلاح وضع هيئة التدريس مجرد الزيادة في الأجور. ينبغي العمل على تحسين ظروف العمل، وتوفير تكوين أساس ومستمر عالي الجودة، وتخفيف العبء المهني (مثل مشكلة الاكتظاظ)، وإعادة الاعتبار لمهنة الأستاذ في المجتمع لجعلها مهنة جاذبة للكفاءات.

على المستوى المجتمعي:

  1. حوار وطني لإعادة بناء الثقة: الدعوة إلى حوار مجتمعي واسع تشارك فيه كل القوى الحية في البلاد (أحزاب، نقابات، مجتمع مدني، خبراء، أسر) بهدف إعادة بناء الثقة في المدرسة العمومية وتجديد العقد الاجتماعي حولها، لتصبح مشروعاً وطنياً يلتف حوله الجميع، وليس مجرد قطاع وزاري.

  2. إن إنقاذ المدرسة العمومية المغربية هو أكثر من مجرد إصلاح قطاعي؛ إنه استثمار في مستقبل الأمة، وشرط أساسي لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، وضمانة حقيقية للحفاظ على وحدة المجتمع وتماسكه.


إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة

أحدث أقدم

نموذج الاتصال