"المدرسة الرائدة" و"المدرسة الجديدة": تقاطع أم تعارض في مسار الإصلاح؟




مقدمة: ازدواجية الإصلاح بين الحلول الظرفية والرؤى التحويلية

يطرح المشهد التربوي المغربي الحالي إشكالية محورية تتمثل في التعايش المتوتر بين مبادرتين رئيسيتين: مشروع "المدرسة الرائدة"، الذي يُعد الأداة التنفيذية لـ "خارطة الطريق 2022-2026" ، ومفهوم "المدرسة الجديدة"، الذي يشكل جوهر الرؤية الاستراتيجية طويلة الأمد التي أرسى دعائمها القانون الإطار 51.17 هذا التعايش ليس مجرد تنوع في المقاربات، بل يعكس تجدداً لتوتر تاريخي طبع مسار إصلاح التعليم في المغرب لعقود، وهو الصراع بين منطق "الإصلاحات المرحلية" التي "تنتهي صلاحياتها بانتهاء مدة مهندسها"، ومنطق "الرؤى الاستراتيجية" الشاملة التي غالباً ما تواجه تحديات في التنزيل.

فمنذ الاستقلال، تعاقبت اللجان والمناظرات والبرامج "الاستعجالية" في محاولة لمعالجة أزمات المنظومة، مما أدى إلى حالة من "الشلل وغياب الرؤية". واليوم، يتجسد هذا التوتر في السؤال التالي: هل يمثل مشروع "المدارس الرائدة"، بتركيزه التقني والعملي، خطوة أولى ضرورية ومدروسة نحو تحقيق "المدرسة الجديدة"؟ أم أنه يشكل "انزياحاً" عن مسارها، وقد يتحول إلى "بديل وظيفي" يكرس حلقة الإصلاحات الجزئية ويُجهض الطموح التحويلي الذي يمثله القانون الإطار؟

يسعى هذا المقال إلى تفكيك هذه العلاقة المعقدة، مستنداً إلى تحليل مقارن للفلسفة والأهداف، ومستعيناً بشكل أساسي بمخرجات "التقييم الخارجي للمرحلة التجريبية لمشروع المدارس الرائدة" الذي أنجزه المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، باعتباره وثيقة مرجعية تكشف بالأرقام والبيانات حدود التقاطع والتعارض بين المشروعين.

مقارنة الفلسفة والأهداف - "العلاج" التقني في مواجهة "التحول" البنيوي

إن الفجوة بين "المدرسة الرائدة" و"المدرسة الجديدة" هي في جوهرها فجوة فلسفية. فالأولى تنطلق من تشخيص محدد وتسعى لحلول مركزة، بينما الثانية تنطلق من رؤية شاملة وتهدف إلى تحول كلي.
يمكن توصيف "المدرسة الرائدة" بأنها مشروع ذو طبيعة "علاجية" وتقنية. هدفه الأساسي، كما تحدده خارطة الطريق، هو "تحسين جودة التعلمات الأساسية، وتقليص الهدر المدرسي"، والتغلب على "صعوبات التعلم في الرياضيات واللغات". هذا الهدف المحدد يضع المشروع في خانة التدخلات التي تسعى لـ "وقف النزيف" ومعالجة الأعراض الأكثر إلحاحاً لأزمة التعليم.
الآلية المحورية لتحقيق ذلك هي مقاربة "التدريس وفق المستوى المناسب" (TaRL)، وهي منهجية مستوردة تقوم على "تفييء المتعلمين وفق مستوى الأداء" في مجموعات متجانسة لمعالجة التعثرات المتراكمة، مع اعتماد أنشطة تتدرج "من الملموس إلى المجرد ومن السهل إلى الصعب".
ورغم فعاليتها المحتملة، فإن تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين يضع حدوداً واضحة لهذه الفلسفة، حيث ينتقد المشروع لكونه "يقتصر على تحسين مستوى التحكم في المعارف الأساسية، دون أن يأخذ بعين الاعتبار الكفايات التي تعتبرها الرؤية الاستراتيجية أساسية، مثل الابتكار والإبداع، والتفكير النقدي". إنه يركز على المهارات الأداتية، ولكنه يغفل الكفايات التحويلية التي تشكل جوهر مواطن الغد.

وعلى النقيض تماماً، تقدم "المدرسة الجديدة"، كما يرسمها القانون الإطار 51.17، رؤية "تحويلية" لا تهدف لإصلاح جزئي، بل لـ "إعادة ولادة" المنظومة. غايتها الأسمى ليست مجرد رفع مستوى التحصيل، بل "الارتقاء بالفرد وتقدم المجتمع" عبر إرساء مدرسة قائمة على "المساواة وتكافؤ الفرص" و"الجودة للجميع".

السمة الجوهرية لهذه المدرسة هي تبنيها لـ "نموذج بيداغوجي موجه نحو الذكاء، يطور الحس النقدي وينمي الانفتاح والابتكار ويربي على المواطنة والقيم الكونية". فالمتعلم المنشود هنا هو مواطن "مبدع، ناقد، منفتح، متشبث بالقيم"، وليس مجرد تلميذ متحكم في القراءة والحساب. كما أنها مدرسة منفتحة على محيطها، تدمج الأبعاد الثقافية والرياضية والفنية، وتقيم شراكات فاعلة مع المجتمع.

جدول مقارن: الفجوة بين المشروعين

المعيار

مشروع "المدرسة الرائدة"

مفهوم "المدرسة الجديدة" (القانون الإطار 51.17)

الفلسفة العامة

علاجية / تقنية (Remedial)

تحويلية / بنائية (Transformative)

الهدف الرئيسي

تحسين التعلمات الأساسية وتقليص الهدر المدرسي.1

"الارتقاء بالفرد وتقدم المجتمع" وتأهيل الرأسمال البشري.2

مواصفات المتعلم

تلميذ متحكم في المهارات الأداتية (القراءة، الحساب).

مواطن مبدع، ناقد، منفتح، ومتمكن من كفايات القرن 21.2

المقاربة البيداغوجية

مركزة: TaRL، التعليم الصريح، الأستاذ المتخصص.11

شاملة: تنمية الحس النقدي، الإبداع، تعدد اللغات، الانفتاح.2

نطاق التدخل

جزئي: السلك الابتدائي، مواد محددة (لغات، رياضيات).

شمولي: جميع الأسلاك والمكونات (مناهج، تكوين، حكامة).2

وحدة التحليل

"إصلاح التلميذ" عبر معالجة تعثراته الفردية.

"إصلاح النظام" عبر مراجعة بنيوية للمناهج والحكامة.


 يكشف هذا التحليل أننا لسنا أمام نسختين من نفس المشروع، بل أمام منطقين مختلفين جذرياً. "المدرسة الرائدة" تسعى لإصلاح نتائج النظام التعليمي الفاشل، بينما "المدرسة الجديدة" تسعى لإصلاح النظام التعليمي الفاشل نفسه.

التوتر بين المقاربة الحكومية والتوجه الاستراتيجي الوطني


هذا الاختلاف الفلسفي ليس نظرياً، بل يتجسد في توتر بنيوي بين الأجندة الحكومية قصيرة المدى والتوجه الوطني طويل الأمد، وهو ما يفسر بوضوح "الانزياح" الذي رصده تقرير المجلس الأعلى.

2.1. منطق "زمن السياسة" القصير: خارطة الطريق 2022-2026

تأتي "خارطة الطريق" كخطة عمل حكومية، مصممة لتحقيق نتائج ملموسة وقابلة للقياس خلال ولاية حكومية محددة. هذا الإطار يفرض منطق "الأثر السريع" والمساءلة القائمة على النتائج. مشروع "المدارس الرائدة" يخدم هذا المنطق بكفاءة، حيث يقدم مؤشرات كمية إيجابية (تحسن نسب النجاح في الاختبارات) يمكن تقديمها كـ "إنجاز" سياسي في فترة زمنية قصيرة.

2.2. منطق "زمن التربية" الطويل: القانون الإطار 51.17

في المقابل، يمثل القانون الإطار 51.17 "عقداً وطنياً" ملزماً للدولة يتجاوز الحكومات. أهدافه استراتيجية وبعيدة المدى، مثل "تأهيل الرأسمال البشري" و"تحقيق التنمية المستدامة" ، وهي غايات لا يمكن قياسها في دورة انتخابية واحدة. آلياته بنيوية وعميقة (إصلاح المناهج، تجديد مهن التدريس، إرساء حكامة جديدة)، وهي بطبيعتها بطيئة ومكلفة وأقل جاذبية سياسياً على المدى القصير.

2.3. "الانزياح الاستراتيجي": حين تنتصر الأداة على الرؤية

هذا التوتر بين المنطقين يفسر بوضوح ما وصفه تقرير المجلس الأعلى بـ "الانزياح الاستراتيجي". فالتقرير يخلص إلى أن التعديلات التي جاء بها مشروع "الرائدة" تظل "جزئية ولا تضمن تحولاً عميقاً في النموذج التربوي الوطني".

ما حدث عملياً هو عملية "انتقاء وإعادة تأويل" للرؤية الوطنية الكبرى. تم اختيار العناصر التي تتناسب مع الإكراهات السياسية والزمنية للحكومة (مقاربة TaRL القابلة للقياس السريع) وتقديمها على أنها هي "الإصلاح"، مع تأجيل أو إهمال العناصر الأكثر تعقيداً ولكنها الأكثر أهمية استراتيجياً (إصلاح تكوين الأساتذة، مراجعة المناهج، ترسيخ استقلالية المؤسسات). هذا يخلق فجوة تنفيذ ليست مجرد تأخير، بل هي تحريف للمسار قد يفرغ الرؤية الاستراتيجية من محتواها.

تقييم العلاقة في ضوء الواقع الميداني - تكامل تكتيكي أم استبدال وظيفي؟

هل يمكن للمشروعين أن يتكاملا رغم اختلافهما؟ أم أن أحدهما سيلغي الآخر؟ تقرير التقييم الخارجي للمجلس الأعلى يقدم بيانات دقيقة تساعد على الإجابة على هذا السؤال.

3.1. حجة التكامل: "الرائدة" كـ "غرفة طوارئ" ضرورية

يستند منطق التكامل إلى فرضية واقعية: لا يمكن بناء مدرسة للتفكير النقدي على أساس من الأمية الوظيفية. من هذا المنظور، فإن معالجة التعثرات الحادة هي شرط قبلي لأي إصلاح أعمق. ويدعم هذا الطرح نتائج إيجابية أبرزها تقرير المجلس الأعلى:

  • تحسن ملموس في التعلمات: شهد مستوى التلاميذ تحسناً ملحوظاً، خاصة في الرياضيات (67% من التلاميذ) واللغة الفرنسية (62%).
  • تملك بيداغوجي فعال: نجح الأساتذة في تطبيق مقاربتي TaRL والتعليم الصريح بشكل جيد، حيث تجاوزت درجة تطابق ممارساتهم 80 نقطة.
  • أداء عام مرضي: حققت المؤسسات المشاركة درجة مطابقة عامة "مرضية" بلغت 79 نقطة من 100.

وفقاً لهذا الطرح، يمكن اعتبار "المدرسة الرائدة" تدخلاً عاجلاً وناجعاً لتحقيق الاستقرار، مما يهيئ الظروف للانتقال لاحقاً إلى بناء "المدرسة الجديدة".

3.2. حجة التعارض: "الرائدة" كـ "فخ الإصلاح الجزئي"

في المقابل، تقوم حجة التعارض على تحليل المخاطر التي رصدها التقييم نفسه. الخطر الأكبر هو أن يتحول النجاح التقني الظاهر إلى "بديل وظيفي" يغني عن الإصلاح البنيوي. وتستند هذه الحجة إلى أدلة نقدية قوية من نفس التقرير:

  • خلق نظام تعليمي بسرعتين: يحذر التقرير من أن تنفيذ المشروع في عدد محدود من المؤسسات "قد يزيد من الفروقات بين المدارس"، مما يضرب مبدأ الإنصاف. كما كشف التقييم عن فجوة أداء كبيرة تصل إلى 42 نقطة بين المؤسسات، وتفاوتات واضحة بين الجهات وبين الوسطين الحضري والقروي.
  • الاستفادة ليست للجميع: يسجل التقرير أن نسبة كبيرة من التلاميذ (تتراوح بين 26% و 55% حسب المادة والمستوى) "لم تحقق أي تقدم، بل شهدت مستويات بعضهم تراجعاً".

  • تحديات بنيوية لم تُحل: يكشف التقييم أن المشروع نفسه يعاني من تحديات بنيوية عميقة، أبرزها "ضعف التأطير التربوي" الذي سجل درجة مطابقة متدنية جداً في الوسط القروي (48 نقطة فقط)، ونقص الموارد المادية، وصعوبات في إدارة الاكتظاظ
  • استمرار المركزية: يخلص التقرير إلى أن التنفيذ الفعلي للمشروع "لا يزال إلى حد كبير يتم تحت إشراف مركزي"، مما يتعارض مع دعوة القانون الإطار لتعزيز استقلالية المؤسسات.

من هذا المنظور، قد تتحول "المدرسة الرائدة" إلى "شجرة تخفي الغابة"، حيث يتم الاحتفاء بنجاحات جزئية لإخفاء الفشل في مواجهة التحديات البنيوية الكبرى.

خلاصة تركيبية: نحو جسر الهوة بين المسارين

إن التحليل المتعمق يكشف أن العلاقة بين "المدرسة الرائدة" و"المدرسة الجديدة" ليست علاقة تكامل خطي ولا تعارض مطلق، بل هي علاقة "تقاطع متوتر". يمكن للمشروع الأول أن يخدم الثاني تكتيكياً، لكنه في نفس الوقت يهدده استراتيجياً.

المآل النهائي لهذه العلاقة يتوقف على الإرادة السياسية. إذا تم اعتبار "المدرسة الرائدة" مرحلة انتقالية ومحدودة زمنياً، هدفها تهيئة الظروف للانتقال إلى التنزيل الفعلي لمبادئ "المدرسة الجديدة" بكليتها، فإن العلاقة ستكون تكاملية. أما إذا تم الاكتفاء بنجاحاتها الجزئية كدليل على نجاح الإصلاح ككل، فإنها ستتحول إلى بديل وظيفي يعيد المغرب إلى الحلقة المفرغة من الإصلاحات السطحية.

لتجنب هذا المآل، لا بد من اتخاذ إجراءات حاسمة لجسر الهوة بين المسارين:

  • على المستوى الاستراتيجي: إعادة المواءمة الصريحة بين خارطة الطريق والقانون الإطار، وتطوير مؤشرات أداء مركبة تتجاوز التعلمات الأساسية لتقيس الإبداع والتفكير النقدي.

  • على المستوى البيداغوجي: البدء الفوري في تجريب نماذج بيداغوجية مكملة لـ TaRL (كالتعلم بالمشاريع)، والانتقال من منطق "العلاج" إلى منطق "الوقاية" عبر تقوية التعليم الأولي.

  • على مستوى الحكامة والإنصاف: وضع خطة تعميم عادلة تعتمد "التمييز الإيجابي" للمناطق الهشة، والانتقال من المركزية المفرطة إلى تمكين حقيقي للمؤسسات التعليمية، ومعالجة النقص الحاد في التأطير التربوي الذي كشفه التقرير.

إن مستقبل المدرسة المغربية يعتمد على القدرة على تحويل التقاطع الحالي من نقطة توتر إلى نقطة انطلاق، ومن نجاح تكتيكي إلى أساس لنجاح استراتيجي شامل.

إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة

أحدث أقدم

نموذج الاتصال