قراءة في قرار قضائي: حين يتحول الإجراء التحضيري إلى قرار نهائي - تعليق على قرار محكمة النقض عدد 299/1 الصادر بتاريخ 16 مارس 2023
مقدمة
تعتبر مسألة تمييز القرار الإداري القابل للطعن بالإلغاء عن غيره من الإجراءات الإدارية التحضيرية من أدق الإشكاليات التي يواجهها القاضي الإداري. فالأصل أن القضاء لا يراقب إلا القرارات النهائية التي تؤثر بشكل مباشر ونهائي في المراكز القانونية للأفراد، أما الإجراءات التمهيدية أو التحضيرية، فتبقى بمنأى عن رقابته المباشرة. غير أن هذا المبدأ ليس مطلقا، وقد ترد عليه استثناءات تفرضها ضرورة حماية الحقوق والحريات من كل تعسف إداري محتمل، حتى لو اتخذ شكل إجراء مؤقت.
وفي هذا السياق، يأتي قرار محكمة النقض، الغرفة الإدارية، عدد 299/1 الصادر بتاريخ 16 مارس 2023 في الملف الإداري رقم 2022/1/4/1432، ليقدم إجابة قضائية بالغة الأهمية حول الطبيعة القانونية لقرار التوقيف المؤقت عن العمل في مجال الوظيفة العمومية، وحدود تحوله من مجرد إجراء تحفظي إلى قرار إداري نهائي قابل للطعن بالإلغاء.
تتلخص وقائع النازلة في كون موظف يشغل منصب مهندس رئيس بالمديرية الإقليمية للتربية والتكوين بسيدي سليمان تم توقيفه مؤقتا عن العمل بتاريخ 22 فبراير 2018 في انتظار عرض ملفه على المجلس التأديبي. وبعد انصرام أجل الأربعة أشهر المنصوص عليه في الفصل 73 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية دون أن تقوم الإدارة بتسوية وضعيته النهائية، تقدم الموظف بدعوى أمام المحكمة الإدارية بالرباط يهدف من خلالها إلى إلغاء قرار التوقيف لعدم مشروعيته. قضت المحكمة الإدارية ابتدائيا بإلغاء القرار المطعون فيه، وهو الحكم الذي أيدته محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط، مما دفع بالأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين إلى الطعن بالنقض في القرار الاستئنافي.
وعليه، تتمحور الإشكالية القانونية التي يعالجها هذا القرار في تحديد الطبيعة القانونية لقرار التوقيف المؤقت عن العمل، وتبيان الأثر الذي يرتبه تجاوز الإدارة للأجل القانوني المحدد لتسوية وضعية الموظف الموقوف على قابلية هذا القرار للطعن بالإلغاء. بعبارة أخرى، هل يؤدي خرق الإدارة للضمانة الزمنية المقررة في الفصل 73 إلى تجريد قرار التوقيف من طابعه التحضيري وتحويله إلى قرار إداري نهائي قابل للطعن فيه قضائيا؟
وللإحاطة بهذه الإشكالية، سنتناول في مبحث أول تكريس محكمة النقض للطبيعة الإجرائية لقرار التوقيف المؤقت كقاعدة عامة (المبحث الأول)، على أن نخصص المبحث الثاني لتحليل التأسيس الاجتهادي الذي أقرته المحكمة لتحول هذا القرار المؤقت إلى قرار نهائي كجزاء على خرق الضمانات القانونية (المبحث الثاني).
التحليل والنقد
المبحث الأول: تكريس الطبيعة الإجرائية لقرار التوقيف المؤقت كقاعدة عامة
لم تتردد محكمة النقض في مستهل تعليلها من التأكيد على المبدأ المستقر فقها وقضاء، والذي يعتبر أن إجراء توقيف الموظف عن العمل مؤقتا لا يعد عقوبة تأديبية، وإنما هو مجرد إجراء مؤقت وتحضيري. فمن المعلوم في فقه القانون الإداري أن القرار الإداري القابل للطعن بالإلغاء هو ذلك الذي يتسم بصفة النهائية ويؤثر بذاته في المراكز القانونية للمعني به، وهو ما لا يتوفر في قرار التوقيف في حالته الطبيعية.
فبالرجوع إلى الفصل 73 من الظهير الشريف رقم 1.58.008 بتاريخ 24 فبراير 1958 بشأن النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، نجد أن المشرع وضع هذا الإجراء كتدبير وقائي وتحفظي يهدف بالأساس إلى إبعاد الموظف الذي ارتكب هفوة خطيرة عن المرفق العام بشكل فوري، وذلك حماية للمصلحة العامة وضمانا لحسن سير الإدارة، في انتظار أن يقول المجلس التأديبي كلمته. فالقرار هنا ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة مؤقتة لغاية لاحقة، وهي اتخاذ القرار التأديبي النهائي.
وقد استقر الاجتهاد القضائي الإداري المغربي، على غرار نظيره الفرنسي، على عدم قبول دعاوى الإلغاء الموجهة ضد الإجراءات التحضيرية، ومنها قرار التوقيف المؤقت، على اعتبار أنها لا تمس بالوضعية النظامية للموظف بشكل نهائي، بل هي مجرد مرحلة في مسطرة ستنتهي حتما بصدور قرار نهائي، وهذا الأخير هو وحده الذي يمكن أن يكون موضوعا للطعن القضائي.
إن منطق محكمة النقض في تكريس هذه القاعدة يجد سنده في ضرورة تحقيق توازن دقيق بين مصلحتين متعارضتين: من جهة، مصلحة الإدارة في امتلاك الأدوات اللازمة لضمان الانضباط وحسن سير مرافقها، ومن جهة أخرى، مصلحة الموظف في عدم إثقال كاهل القضاء بالطعن في كل إجراء تمهيدي قد يتم التراجع عنه لاحقا. فقبول الطعن في الإجراءات التحضيرية من شأنه أن يشل عمل الإدارة ويحول القاضي الإداري إلى مسير إداري، وهو ما يتعارض مع مبدأ فصل السلطات.
إلا أن هذا المبدأ، على رسوخه وأهميته، ليس قاعدة مطلقة، وهو ما سيتضح جليا في المنطق الذي بنى عليه قضاة محكمة النقض قرارهم.
المبحث الثاني: التأسيس لتحول القرار المؤقت إلى قرار نهائي كجزاء على خرق الضمانات القانونية
تتجلى القيمة الفكرية الحقيقية لهذا القرار في الشق الثاني من تعليله، حيث قامت محكمة النقض بتأسيس نظرية قضائية مهمة مفادها أن الطبيعة القانونية للإجراء الإداري ليست جامدة، بل يمكن أن تتغير وتتحول بناء على سلوك الإدارة اللاحق. فبعد أن أكدت على المبدأ، استدركت المحكمة بالقول: "...غير أن هذا التفسير لا يجعله بمنأى عن الطعن فيه في حالة خروجه عن المقتضيات التشريعية المتعلقة به...".
فالمشرع عندما منح الإدارة سلطة توقيف الموظف مؤقتا، لم يمنحها سلطة مطلقة، بل قيدها بضمانة زمنية جوهرية تتمثل في وجوب تسوية الوضعية النهائية للموظف في أجل أقصاه أربعة أشهر. هذه الضمانة لم توضع عبثا، بل هدفها حماية الموظف من بقائه في وضعية قانونية معلقة إلى ما لا نهاية، وهو ما يشكل مساسا خطيرا بحقه في الأمن القانوني.
وعندما تتقاعس الإدارة عن احترام هذا الأجل، فإنها تكون قد حرفت الإجراء عن غايته. فقرار التوقيف لم يعد "مؤقتا" في انتظار قرار لاحق، بل أصبح هو نفسه الوضعية النهائية للموظف بحكم الواقع. لقد تحول الإجراء من وسيلة مؤقتة إلى عقوبة مقنعة غير منصوص عليها في القانون. وفي هذه الحالة، يفقد القرار طابعه التحضيري ويكتسب صفة النهائية، لأنه أصبح هو نفسه القرار المؤثر في المركز القانوني للموظف.
إن هذا التحليل الذي تبنته محكمة النقض يتجاوز التفسير الحرفي للفصل 73، والذي قد يفهم منه أن الجزاء الوحيد على تجاوز أجل الأربعة أشهر هو إعادة صرف الراتب كاملا للموظف. لقد اعتمد قضاة النقض تفسيرا غائيا يربط القاعدة القانونية بهدفها، فاعتبروا أن إعادة صرف الراتب هي مجرد نتيجة مالية، أما الجزاء القانوني الحقيقي على خرق هذه الضمانة الجوهرية فهو تحصين حق الموظف في الطعن في القرار الذي أصبح، بفعل خطأ الإدارة، قرارا نهائيا.
بهذا التوجه، تكون محكمة النقض قد كرست دور القاضي الإداري كحارس للمشروعية، لا يكتفي بمراقبة الوجود الشكلي للقانون، بل يراقب أيضا كيفية تطبيقه والغايات من ورائه. لقد أسست لاجتهاد قضائي يضع حدا أمام أي محاولة من الإدارة لاستغلال المساطر التحضيرية كأداة لفرض عقوبات غير مباشرة ودائمة، وهو ما يعزز من ضمانات الموظف العمومي في مواجهة سلطة الإدارة.
خاتمة
في ختام هذا التحليل، يمكن القول إن قرار محكمة النقض عدد 299/1 الصادر بتاريخ 16 مارس 2023 يشكل لبنة أساسية في صرح الاجتهاد القضائي الإداري المغربي. فمن خلاله، لم تكتف المحكمة بحل نزاع فردي، بل أرست قاعدة قانونية بالغة الأهمية مفادها أن الطبيعة المؤقتة والتحضيرية لقرار التوقيف عن العمل ليست امتيازا مطلقا للإدارة، بل هي وضع مشروط باحترامها للضمانات التي أقرها المشرع، وعلى رأسها الضمانة الزمنية.
ومن وجهة نظرنا، فإن هذا القرار يعد انتصارا لمبدأ الأمن القانوني وحقوق الدفاع. إنه يؤكد على أن السلطات التي يمنحها القانون للإدارة ليست غاية في حد ذاتها، بل هي وسائل لتحقيق المصلحة العامة في إطار احترام المشروعية. وبتحويله لقرار التوقيف إلى قرار نهائي قابل للطعن عند تجاوز الإدارة للأجل القانوني، تكون محكمة النقض قد أضافت جزاء قضائيا فعالا إلى جانب الجزاء المالي المنصوص عليه تشريعيا، مما سيجبر الإدارة على التعامل بجدية ومسؤولية أكبر مع المساطر التأديبية.
ويبقى السؤال مفتوحا حول إمكانية توسيع نطاق هذا الاجتهاد القضائي ليشمل إجراءات تحضيرية أخرى في مجالات إدارية مختلفة، كلما قيدها المشرع بآجال محددة. إن تكريس مثل هذا التوجه من شأنه أن يعزز من بناء دولة الحق والقانون، التي تخضع فيها الإدارة، في كل أعمالها، لرقابة القضاء الفعالة.
إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة

