مسطرة العزل بسبب ترك الوظيفة: حدود السلطة التقديرية للإدارة في مواجهة الرقابة القضائية على الوقائع

 



تعليق على قرار محكمة النقض عدد 1/471 الصادر بتاريخ 27 أبريل 2023

مسطرة العزل بسبب ترك الوظيفة: حدود السلطة التقديرية للإدارة في مواجهة الرقابة القضائية على الوقائع

مقدمة


تعتبر مسطرة العزل المباشر بسبب ترك الوظيفة، المنصوص عليها في الفصل 75 مكرر من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، من أخطر السلطات وأكثرها استثناءً الممنوحة للإدارة. فهي تخولها إنهاء المسار المهني للموظف دون عرض قضيته على ضمانة المجلس التأديبي، مما يجعلها سلاحاً ذا حدين:
  • ضرورياً لضمان استمرارية المرفق العام في مواجهة الموظف المنقطع
  • وخطيراً إذا ما تم استعماله في غير محله أو بناءً على وقائع غير صحيحة.
والقرار الصادر عن محكمة النقض الذي بين أيدينا يمثل تجسيداً دقيقاً لعمق الرقابة القضائية التي يمارسها القاضي الإداري على هذه المسطرة، ضامناً بذلك التوازن الدقيق بين فعالية الإدارة وحماية حقوق الموظف.
يتعلق الأمر بقرار محكمة النقض، الغرفة الإدارية (القسم الأول)، عدد 1/471، الصادر بتاريخ 27 أبريل 2023 في الملف الإداري رقم 2021/1/4/1394.

تتلخص وقائع النازلة في كون أستاذ للتعليم الابتدائي انقطع عن عمله ابتداءً من 14 شتنبر 2007 بسبب ظروف صحية حرجة، أثبتها بشهادات طبية. وبعد تماثله للشفاء، بادر إلى محاولة استئناف عمله بتاريخ 13 نونبر 2007، إلا أن مدير المؤسسة رفض توثيق هذا الاستئناف. ورغم ذلك، أصدر وزير التربية الوطنية قراراً بعزله من أسلاك الوظيفة العمومية. لجأ الأستاذ المعني إلى القضاء الإداري، الذي قضى لصالحه في المرحلة الابتدائية بإلغاء قرار العزل، وهو الحكم الذي أيدته محكمة الاستئناف الإدارية، مما دفع بالوكيل القضائي للمملكة إلى الطعن بالنقض أمام أعلى هيئة قضائية بالمملكة.

وعليه، تتمحور الإشكالية القانونية التي يعالجها هذا القرار في تحديد مدى عمق الرقابة التي يمارسها القاضي الإداري على صحة الوقائع المادية التي تستند إليها الإدارة لتفعيل مسطرة العزل بسبب ترك الوظيفة، وبالتحديد، هل تعتبر محاولة الموظف استئناف عمله فعلياً، قاطعاً لحالة الانقطاع المبررة للعزل، حتى وإن رفضت الإدارة توثيق هذا الاستئناف؟

للإحاطة بهذه الإشكالية، سنتناول في مبحث أول، تكريس محكمة النقض للرقابة القضائية الكاملة على الشروط الموضوعية لتطبيق مسطرة ترك الوظيفة. على أن نخصص المبحث الثاني، لتحليل منطق المحكمة في حماية الموظف من الآثار المترتبة على الوقائع التي تخلقها الإدارة بشكل انفرادي.

المبحث الأول: تكريس الرقابة القضائية على الشروط الصارمة لمسطرة العزل


لم يتردد قضاة محكمة النقض في تأييد القرار المطعون فيه، مكرسين بذلك توجهاً قضائياً راسخاً يعتبر مسطرة الفصل 75 مكرر من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية مسطرة استثنائية لا يمكن اللجوء إليها إلا بعد التحقق الدقيق من توفر شروطها الموضوعية، والتي لا تترك للإدارة أي سلطة تقديرية في حال تخلف أحدها.

إن منطق المحكمة، كما يستشف من تعليلاتها، يرتكز على أن "ترك الوظيفة" ليس مجرد غياب مادي، بل هو حالة قانونية دقيقة تتطلب توفر ركنين أساسيين: ركن مادي يتمثل في الانقطاع الفعلي عن العمل، وركن معنوي يتمثل في نية الموظف وقصده الانصراف عن وظيفته بشكل إرادي وغير مبرر.

وهذا ما استخلصته المحكمة من عبارات الفصل 75 مكرر نفسه، الذي يتحدث عن الموظف الذي "يتغيب بصفة غير مشروعة"، وعن ضرورة "استمرار الموظف في انقطاعه عن العمل بدون مبرر". فالقاضي الإداري، ومن خلفه قاضي النقض، لا يكتفي بالنظر إلى ظاهر الإجراءات التي قامت بها الإدارة (توجيه الإنذار، إيقاف الأجرة)، بل يغوص في عمق الوقائع ليبحث عن جوهرها: هل كان الانقطاع فعلاً "غير مشروع"؟ وهل كان هناك "مبرر" له؟

في نازلتنا، استحضرت المحكمة "الشهادات الطبية المدلى بها" كدليل على أن انقطاع الأستاذ لم يكن انقطاعاً إرادياً بنية التخلي عن الوظيفة، بل كان انقطاعاً اضطرارياً لسبب قاهر هو المرض. وبهذا، تكون المحكمة قد مارست رقابة كاملة على "ركن السبب" في القرار الإداري المطعون فيه، وهو ركن جوهري في مشروعية أي قرار. فالسبب يجب أن يكون قائماً وصحيحاً من الناحية الواقعية والقانونية. وحيث إن الإدارة بنت قرارها بالعزل على واقعة "ترك الوظيفة"، وثبت للقضاء أن هذه الواقعة غير قائمة بسبب وجود مبرر صحي، فإن القرار يكون قد بني على سبب غير صحيح، مما يجعله مشوباً بعيب التجاوز في استعمال السلطة ومستوجباً للإلغاء.

إن هذا الموقف القضائي ليس بجديد، بل هو تكريس لاجتهاد قضائي إداري مستقر، يعتبر أن مسطرة الفصل 75 مكرر وُجدت لمواجهة "الموظف الشبح" الذي يتخلى فعلياً عن مهامه، وليس لمعاقبة الموظف الذي يواجه ظرفاً قهرياً يمنعه من الالتحاق بعمله، خاصة إذا بادر إلى إثبات هذا العذر بوسائل الإثبات المتاحة.

المبحث الثاني: حماية الموظف من تعسف الإدارة في توثيق الوقائع


إن النقطة الأكثر دقة وأهمية في هذا القرار لا تكمن فقط في التحقق من مشروعية سبب الغياب، بل في تعامل المحكمة مع واقعة محورية أخرى، وهي محاولة الأستاذ استئناف عمله ورفض الإدارة توثيق ذلك.

لقد بنت الإدارة دفاعها على حجة شكلية، مفادها أن الموظف لم يستأنف عمله داخل أجل الستين يوماً الموالية لقرار إيقاف الأجرة. لكن المحكمة العليا، مؤيدة قضاة الموضوع، قامت بتفكيك هذه الحجة عبر العودة إلى التسلسل الزمني للوقائع. فقد ثبت لديها من خلال وثائق الملف أن الأستاذ "استأنف عمله بتاريخ 2007/11/13" (أو 14/11/2007 حسب منطوق آخر )، وأن قرار إيقاف الأجرة لم يتخذ إلا في تاريخ لاحق وهو 26/12/2007.

هنا، نكون أمام عمل قضائي في غاية الأهمية. فالمحكمة لم تسمح للإدارة بالتمسك بإجراءاتها الشكلية لخلق واقع قانوني مخالف للحقيقة المادية. فالعبرة ليست بتاريخ قرار إيقاف الأجرة، بل بواقعة "استمرار الانقطاع". وحيث إن الموظف قد قطع هذا الاستمرار بمبادرته للعودة إلى عمله، فإن السند القانوني لتطبيق مسطرة ترك الوظيفة يكون قد انهار، حتى قبل بدء حساب أجل الستين يوماً.

إن رفض مدير المؤسسة التوقيع على محضر استئناف العمل، بناءً على تعليمات شفهية مزعومة، هو تصرف لا يمكن أن ينتج أثراً قانونياً في مواجهة الموظف. فهذا الرفض هو في حد ذاته قرار إداري سلبي معيب، ولا يمكن للإدارة أن تستفيد من خطئها أو من واقعة خلقتها بنفسها لترتب عليها أثراً قانونياً ضد الموظف. لقد أعطى القضاء الأسبقية للواقعة المادية (حضور الموظف للمؤسسة بنية العمل) على الشكل (غياب وثيقة موقعة من الإدارة).

بهذا المنطق، تكون محكمة النقض قد أرست مبدأً حمائياً جوهرياً، مفاده أن الإدارة لا تستطيع أن تتذرع بعدم استئناف الموظف لعمله، إذا كانت هي نفسها من وضع العراقيل التي حالت دون إثبات هذا الاستئناف. وهذا يدخل في صميم الرقابة على عيب "الانحراف بالسلطة"، حيث تستعمل الإدارة سلطتها وصلاحياتها لتحقيق غاية غير تلك التي منحتها لها النصوص القانونية.

خاتمة

في ختام هذا التحليل، يمكن القول إن قرار محكمة النقض عدد 1/471 هو قرار كاشف ومكرس لمبادئ أساسية في دولة القانون. فهو يؤكد من جديد أن السلطات الاستثنائية الممنوحة للإدارة ليست شيكاً على بياض، وأن القاضي الإداري هو الحارس الأمين لمبدأ المشروعية.

لقد أثبت هذا القرار، بما لا يدع مجالاً للشك، أن رقابة القضاء لا تقف عند حدود الإجراءات الشكلية، بل تمتد إلى فحص جوهر الوقائع المادية، ولا تتردد في إعطاء الأسبقية للحقيقة على المظاهر الشكلية، خاصة عندما يتعلق الأمر بحماية حق أساسي للموظف في مواجهة سلطة الإدارة. إن الدرس الأساسي الذي يمكن استخلاصه من هذه النازلة هو أن عبء الإثبات يقع على الإدارة لتبرير قراراتها بأسباب واقعية وقانونية صحيحة، وأن أي محاولة لخلق واقع مخالف للحقيقة لن تصمد أمام رقابة القضاء، الذي يظل الملاذ الأخير لضمان عدم تحول السلطة إلى تعسف.

ويبقى التساؤل مشروعاً حول الآليات التي يمكن تطويرها داخل الإدارة نفسها لضمان توثيق حيادي وموضوعي للوقائع المتعلقة بالمسار المهني للموظف، لتجنب الدخول في نزاعات قضائية طويلة ومعقدة كان من الممكن تفاديها بقليل من الحكمة والالتزام بروح القانون.

إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة

أحدث أقدم

نموذج الاتصال