مقدمة:
في قلب المرفق التعليمي، تتفاعل يومياً ضرورات تسيير الخدمة العامة مع الحقوق والالتزامات الدقيقة للأساتذة. وتعتبر واقعة غياب أستاذ بشكل مفاجئ السيناريو النموذجي الذي يكشف عن هذا التفاعل في أدق صوره. ففي مواجهة قسم دراسي أصبح فجأة دون أستاذ، تجد الإدارة التربوية نفسها ملزمة باتخاذ إجراءات فورية لضمان عدم ترك التلاميذ القاصرين دون إشراف، حمايةً لهم من المخاطر وضماناً لاستمرارية المرفق.
والإجراء الأكثر شيوعاً هو إصدار مدير المؤسسة أمراً مباشراً لأحد الأساتذة الحاضرين باستقبال عدد معين من تلاميذ زميله المتغيب وضمهم إلى قسمه. وهنا، عند نقطة التقاء الأمر الإداري بالواقع المادي للفصل الدراسي، ينشأ التوتر القانوني المحوري. فالأستاذ المعني، وإن كان يدرك مبدأ الطاعة الرئاسية، كثيراً ما يواجه هذا الأمر بدفوع جوهرية، أبرزها اثنان:
أولاً، الخشية من تحمل المسؤولية المدنية عن أي حادث قد يقع لأحد هؤلاء التلاميذ الذين لا يعرفهم؛
وثانياً، الاعتراض الموضوعي بأن الطاقة الاستيعابية لقاعة الدرس لا تسمح بإضافة تلاميذ جدد دون المساس بشروط السلامة وقواعد العمل التربوي السليم.
هذه الوقائع تضعنا أمام إشكالية قانونية مركبة وعميقة تتجاوز مجرد طاعة الأوامر:
إلى أي حد تمتد السلطة التنظيمية لمدير المؤسسة في اتخاذ تدابير استعجالية لضمان استمرارية المرفق، وكيف يوازن القضاء بين هذه السلطة وبين الدفوع المشروعة التي يقدمها الأستاذ، وما هي التبعات التأديبية التي قد تترتب على رفضه في حال اعتبار دفوعه غير قائمة على أساس؟
للإحاطة بجوانب هذه الإشكالية، سنعتمد تصميماً منهجياً متكاملاً، ينطلق من تأصيل سلطة الإدارة (الفصل الأول)، ثم يحدد واجبات الموظف وحدودها (الفصل الثاني)، ليعالج بعد ذلك بشكل مفصل الدفوع الجوهرية للأستاذ (الفصل الثالث)، ثم يبين المسؤولية التأديبية المترتبة على الرفض (الفصل الرابع)، ويخلص إلى استشراف الموقف المرجح للقضاء الإداري، ممثلاً في محكمة النقض، من هذه النازلة (الفصل الخامس).
الفصل الأول: سلطة الإدارة كأساس لضمان استمرارية المرفق العام
لا يمكن فهم مشروعية قرار المدير دون الرجوع إلى المبادئ التي تؤطر عمل الإدارة. فسلطة المدير في إصدار أمر بتوزيع التلاميذ على الأقسام لا تنبع من فراغ، بل تستند إلى أساس قانوني متين قوامه مبدأ استمرارية المرافق العامة، الذي استقر عليه الفقه والقضاء الإداري كأحد أعمدة القانون العام، والذي يهدف إلى ضمان تقديم الخدمات للمرتفقين بانتظام ودون انقطاع.
هذا المبدأ العام يجد ترجمته الإجرائية في نصوص تنظيمية خاصة، أبرزها المذكرة الوزارية رقم 154 حول تأمين الزمن المدرسي، والتي تمنح مديري المؤسسات صلاحية اتخاذ "مختلف الصيغ المتاحة" لتعويض غياب المدرسين والاحتفاظ بالتلاميذ داخل المؤسسة. إن قرار ضم التلاميذ هو إحدى هذه "الصيغ المتاحة" التي تدخل في صميم السلطة التنظيمية للمدير لتدبير شؤون مؤسسته اليومية، وهو ما أكده المرسوم رقم 2.02.376 الذي جعل من "ضمان حسن سير الدراسة والنظام في المؤسسة" إحدى المهام المحورية لمديرها. وبالتالي، فإن الأمر الصادر عن المدير يكتسب مشروعيته الأولية من كونه يهدف إلى تحقيق غاية قانونية مشروعة هي استمرارية المرفق.
الفصل الثاني: واجب الطاعة الرئاسية كالتزام أساسي وحدوده
في مقابل سلطة الإدارة، يقع على عاتق الموظف واجب أساسي هو طاعة أوامر رؤسائه، وهو ما نص عليه الفصل 17 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية. وهذا الواجب ليس مطلقاً، بل حده الأقصى هو الأمر الذي يشكل مخالفة صريحة وواضحة للقانون أو يشكل جريمة. فهل الأمر بضم التلاميذ يدخل في هذا النطاق؟ من حيث المبدأ، إن أمراً يهدف إلى تحقيق المصلحة العامة المتمثلة في تأمين التلاميذ لا يمكن اعتباره مخالفاً للقانون. غير أن الدفوع التي يقدمها الأستاذ تنقل النقاش من مشروعية الغاية إلى مشروعية الوسيلة. فالأستاذ لا يرفض مبدأ استمرارية المرفق، بل يرفض المشاركة في إجراء يعتقد أنه يعرضه ويعرض التلاميذ للخطر.
الفصل الثالث: التحليل المعمق للدفوع الجوهرية للأستاذ
إن رفض الأستاذ هنا ليس مجرد عصيان، بل هو رفض معلل بدفوع قانونية وواقعية يجب تحليلها بعمق.
المبحث الأول: الدفع بانتقال عبء المسؤولية المدنية (حادثة مدرسية)
يستند هذا الدفع إلى الخشية من أنه في حال وقوع حادثة لأحد التلاميذ المضافين، فإنه سيتحمل المسؤولية المدنية. ولتحليله، لا بد من العودة إلى الفصل 85 مكرر من قانون الالتزامات والعقود، الذي أرسى مبدأ إحلال مسؤولية الدولة محل مسؤولية موظفي التعليم، إلا في حالة ارتكابهم "خطأ جسيماً". إن مكمن خوف الأستاذ هو في تكييف أي تقصير منه في ظل ظرف الاكتظاظ على أنه "خطأ جسيم". ورغم وجاهته الظاهرية، يبقى هذا التخوف ضعيفاً من الناحية القانونية، لأن الخطأ الجسيم يقتضي إهمالاً فادحاً، ومجرد تنفيذ أمر إداري لا يشكل في حد ذاته خطأً، بل هو قرينة على حسن النية.
المبحث الثاني: الدفع بانعدام شروط السلامة وتجاوز الطاقة الاستيعابية
يستند هذا الدفع إلى أساس واقعي ومنطقي. فالأستاذ يعتبر أن الأمر الإداري بتوزيع التلاميذ يضعه أمام استحالة مادية لتأدية مهامه في ظروف سليمة وآمنة. بهذا الدفع، فإنه لا يرفض الأمر من منطلق شخصي، بل لكونه يعتبر أن تنفيذه سيؤدي إلى الإخلال بواجب آخر يقع على عاتق الإدارة نفسها، وهو واجب توفير بيئة مدرسية آمنة. وهذا الدفع، بخلاف سابقه، يكتسي جدية أكبر إذا كان الاكتظاظ فادحاً وخطيراً.
الفصل الرابع: المسؤولية التأديبية المترتبة على الرفض
في حال لم تقتنع الإدارة بالدفوع التي قدمها الأستاذ، واعتبرت أن رفضه غير مبرر، فإنها تنتقل إلى تفعيل مسطرة المساءلة التأديبية.
المبحث الأول: تكييف الرفض كخطأ مهني موجب للمساءلة
إن رفض الأستاذ الامتثال لأمر إداري اعتبرته الإدارة مشروعاً، يشكل من وجهة نظرها خطأً مهنياً مركباً ومتعدد الأوجه:
إخلال بواجب الطاعة الرئاسية: وهو خرق مباشر للفصل 17 من قانون الوظيفة العمومية، ويعتبر الصورة الكلاسيكية للخطأ التأديبي.
عرقلة السير العادي للمرفق العام: فبرفضه، يكون الأستاذ قد ساهم في ترك التلاميذ دون إشراف، وعرقل جهود الإدارة لضمان استمرارية الخدمة.
الإخلال بالواجبات المهنية الخاصة: يعتبر الرفض خرقاً للمبادئ التي أرساها النظام الأساسي الجديد (مرسوم 2.24.140)، وخصوصاً المادة 7 التي تلزم الموظفين بـ "الاستحضار الدائم للمصلحة الفضلى للمتعلمين".
المبحث الثاني: المسطرة التأديبية والعقوبات المحتملة
عند ثبوت الخطأ المهني في نظر الإدارة، فإنها تتبع مسطرة قانونية تضمن حقوق الدفاع، وتبدأ بتوجيه استفسار كتابي للأستاذ. وبناءً على رده، وبعد دراسة الملف، تتخذ السلطة المختصة القرار التأديبي المناسب، والذي يجب أن يحترم مبدأ التناسب بين العقوبة والخطأ المرتكب. وتتدرج العقوبات كما حددها الفصل 66 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، من عقوبات الدرجة الأولى التي يمكن أن تصدر مباشرة بعد الاستفسار(الإنذار، التوبيخ)، إلى عقوبات أشد لا تصدر إلا بعد استشارة المجلس التأديبي (الحذف من لائحة الترقي - الانحدار من الطبقة - القهقرى من الدرجة - العزل من غير توقيف حق التقاعد - العزل المصحوب بتوقيف حق التقاعد)
الفصل الخامس: التوجه المرجح لمحكمة النقض في الموازنة بين السلطة والدفوع
عندما يصل النزاع إلى محكمة النقض، فإنها ستراقب مشروعية القرار التأديبي في ضوء الدفوع المثارة. ونرجح أنها ستقوم بعملية موازنة دقيقة بين المبادئ المتعارضة، لتقرر على الأرجح ما يلي:
بخصوص الدفع بالمسؤولية المدنية: سترفضه المحكمة لكونه مبنياً على خوف افتراضي، ولأن الفصل 85 مكرر يوفر حماية كافية للموظف، ولا يمكن استخدامه كذريعة لرفض أمر إداري.
بخصوص الدفع بالطاقة الاستيعابية: هنا ستميز المحكمة بين الاكتظاظ البسيط والمؤقت الذي تفرضه ضرورات المرفق (وفي هذه الحالة ستعتبر الرفض غير مشروع)، وبين الاكتظاظ الفادح الذي يشكل خطراً بيناً وحقيقياً على سلامة التلاميذ (وفي هذه الحالة قد تعتبر الرفض مبرراً، وبالتالي تبطل العقوبة التأديبية لانبنائها على أمر غير مشروع).
وعليه، فإن المبدأ الذي ستكرسه محكمة النقض سيوازن بين هذه الاعتبارات، مؤكداً على شرعية الأمر الإداري في الحالات العادية، مع ترك الباب مفتوحاً أمام القضاء لمراقبة الحالات الاستثنائية التي يفقد فيها الأمر مشروعيته بسبب الخطر الذي يخلقه.
خاتمة:
إن هذا التحليل المعمق يقودنا إلى خلاصة مركبة: إن واجب طاعة الأستاذ لأوامر رئيسه بقبول استقبال التلاميذ ليس واجباً أعمى، ولكنه في نفس الوقت ليس حقلاً للرفض المطلق. لقد رسم القانون والقضاء خيطاً رفيعاً بين ما هو مقبول في إطار ضرورات المرفق العام، وما هو مرفوض لكونه يمس بجوهر السلامة والمسؤولية.
لهذا على المديرين ممارسة سلطتهم التقديرية بحكمة ومسؤولية. يجب أن يكون قرار توزيع التلاميذ مبنياً على تقييم واقعي للطاقة الاستيعابية، وأن يكون حلاً أخيراً ومؤقتاً.
كما أن الدفع بالمسؤولية المدنية من جانب الأستاذ هو دفع ضعيف قانونياً في معظم الحالات. بخلاف الدفع بالطاقة الاستيعابية، فهو دفع جدي، ولكن لا يمكن قبوله إلا إذا كان الاكتظاظ فادحاً وخطيراً. والطريق الأسلم ليس الرفض المباشر، بل هو الامتثال مع تسجيل تحفظ كتابي يوجه للإدارة، يوضح فيه الأستاذ الظروف التي يعمل فيها ويخلي مسؤوليته عن أي تبعات قد تنجم عن وضعية الاكتظاظ. فهذا الإجراء يحميه قانونياً دون أن يوقعه في مخالفة عصيان الأوامر.
إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة
