تكليف أساتذة التعليم الابتدائي بحراسة البكالوريا: قراءة في جدلية السلطة التقديرية ومبدأ الشرعية على ضوء النظام الأساسي لسنة 2024


مقدمة: مدخل إشكالي


إن من أعقد الإشكاليات التي يواجهها القانون الإداري، تلك التي تقع في منطقة التماس الدقيقة بين ضرورات المرفق العام وحقوق الموظف العمومي. وفي هذا السياق، تبرز مسألة تكليف أساتذة سلك التعليم الابتدائي بمهمة حراسة امتحانات شهادة البكالوريا، ليس كنزاع إداري موسمي، بل كقضية قانونية جوهرية تكشف عن توتر عميق بين مبدأين مؤسسين: 

مبدأ استمرارية المرفق العام الذي تتسلح به الإدارة لضمان سير الامتحانات الوطنية، ومبدأ الشرعية الذي يتمسك به الموظف للدفاع عن نطاق مهامه المحددة قانوناً.

إن النصوص التي بين أيدينا، وهي أساساً المرسوم رقم 2.24.140 الصادر في 23 فبراير 2024 بشأن النظام الأساسي الخاص بموظفي قطاع التربية الوطنية ، والمرسوم المنسوخ رقم 2.22.69 الصادر سنة 2022، لا تشكل مجرد قواعد تنظيمية، بل هي تجسيد لتطور الفكر التشريعي في تدبير العلاقة بين الدولة وموظفيها. فالوقائع النموذجية المتكررة، التي تتمثل في إصدار الإدارة قرارات تكليف جماعية، تقابل برفض واسع من هيئة التدريس، تحول الساحة التربوية كل عام إلى سجال قانوني ونقابي، مما يطرح تساؤلاً حول الأمن القانوني والوضوح التشريعي.

وعليه، فإن الإشكالية المحورية التي يثيرها هذا الوضع تتجاوز سؤال المشروعية، لتتعمق في جوهر فلسفة القانون العام: 

إلى أي حد استطاع النظام الأساسي الجديد حسم مسألة المهام العابرة للأسلاك؟ وكيف يمكن للقاضي الإداري، في غياب اجتهاد قضائي حاسم، أن يوازن بين السلطة التقديرية للإدارة في تنظيم المرافق العامة، والحق المكتسب للموظف في عدم إلزامه بمهام خارجة عن نطاق إطاره القانوني المحدد؟


للإحاطة بهذه الإشكالية، سنعالج في مبحث أول الإطار القانوني الحاكم من خلال تحليل معمق للمادتين المتعارضتين في مرسوم 2024، على أن نخصص المبحث الثاني لدراسة الأثر القانوني للتحول التشريعي الذي أحدثه إلغاء النص المانع لسنة 2022، لنصل في مبحث ثالث إلى تحليل الصدام بين الحجج القانونية المتقابلة، قبل أن نختم بخلاصة تركيبية تتضمن رأياً قانونياً مرجحاً في المسألة.

المبحث الأول: الإطار القانوني الحاكم وصدام التأويلات داخل مرسوم 2024

إن المرسوم رقم 2.24.140، باعتباره النص التشريعي النافذ، يشكل ساحة المعركة القانونية التي يتواجه فيها طرفا النزاع، وكل منهما يستند في موقفه إلى نص صريح داخل نفس الوثيقة القانونية، مما يخلق حالة من التجاذب التشريعي تستدعي تحليلاً أصولياً دقيقاً.

المطلب الأول: سند الإدارة في عمومية المادة 15

تجد الإدارة سندها في قرار التكليف في الصياغة العامة والفضفاضة التي وردت بها المادة 15 من المرسوم، والتي أسندت لهيئة التدريس مهمة "المشاركة في تنظيم الامتحانات المدرسية". وتكريساً لهذا التوجه، ترى الإدارة أن هذه العبارة، لكونها جاءت مطلقة وغير مقيدة بسلك أو فئة، تمنحها سلطة تقديرية واسعة لتحديد مفهوم "الامتحانات المدرسية" وكيفية "المشاركة" فيها. فامتحان البكالوريا، باعتباره الامتحان المدرسي الوطني الأهم، يدخل بالضرورة في هذا النطاق العام، ويصبح واجباً على جميع أطر التدريس المساهمة في إنجاحه تحقيقاً للمصلحة العامة.

وعند التأصيل والتحليل النقدي، نجد أن هذا الموقف يجد سنده في مبدأ دستوري أصيل هو مبدأ استمرارية المرفق العام. فالإدارة تعتبر نفسها مسؤولة عن ضمان هذا المبدأ، ولو تطلب ذلك تفسيراً موسعاً للنصوص التنظيمية. لكن هذا التفسير، على وجاهته من زاوية المصلحة العامة، يصطدم بقاعدة أصولية راسخة مفادها أن السلطة التقديرية للإدارة ليست سلطة مطلقة، بل هي مقيدة بمبدأ الشرعية. إن القول بعمومية المادة 15 دون ربطها بباقي نصوص المرسوم، يفضي إلى إفراغ حقوق الموظف من محتواها ويفتح الباب أمام التكليفات غير المحدودة.

المطلب الثاني: درع الموظف في خصوصية المادة 5

في مقابل التفسير الواسع للإدارة، يتمسك أساتذة التعليم الابتدائي بنص قاطع وحاسم يشكل حجر الزاوية في دفاعهم، وهو المادة 5 من نفس المرسوم. وتكريساً لمبدأ حماية الموظف، تنص هذه المادة بوضوح لا يقبل الجدال على أنه: 
"ولا يمكن إلزامهم (الموظفين) بمزاولة مهام غير تلك المسندة إليهم طبقا للنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل". هذا النص ليس مجرد توصية، بل هو قاعدة قانونية آمرة تكرس مبدأ تخصص المهام، وتحول حق الموظف في معرفة واجباته على وجه الدقة إلى التزام يقع على عاتق الإدارة.

وعند التأصيل والتحليل النقدي، يتضح أن هذا المقتضى هو التطبيق المباشر لمبدأ سيادة القانون، الذي يعني أن الإدارة نفسها تخضع للقانون ولا يمكنها أن تفرض التزامات جديدة على موظفيها إلا بموجب نص صريح. وهنا يبرز بجلاء دور القاعدة الأصولية القائلة بأن "الخاص يقيد العام". فإذا كانت المادة 15 قد وضعت قاعدة عامة، فإن المادة 5 جاءت لتضع قيداً خاصاً وحاسماً، مؤداه أن أي مهمة، بما فيها "المشاركة في الامتحانات"، يجب أن تكون "مسندة" قانوناً. وبما أن النظام الأساسي، في هيكلته المفصلة القائمة على الأسلاك والأطر، لم يسند صراحةً مهمة حراسة البكالوريا لأستاذ التعليم الابتدائي ، فإن إلزامهم بها يشكل، من منظور قانوني صارم، تجاوزاً للسلطة ومخالفة مباشرة لنص المادة 5.

المبحث الثاني: الأثر القانوني للنسخ التشريعي من اليقين إلى الغموض

إن فهم أبعاد النزاع الحالي لا يكتمل إلا بالعودة إلى السابقة التشريعية المباشرة التي ألغاها مرسوم 2024، والتي كانت قد حسمت الجدل بشكل لا يدع مجالاً للتأويل. فقد كان المرسوم رقم 2.22.69 لسنة 2022 يتضمن نصاً صريحاً يمنع تكليف أطر هيئة التدريس بمهام خارج سلكهم الأصلي. خلال فترة سريان هذا النص، كانت أي محاولة لتكليف أساتذة الابتدائي بحراسة البكالوريا تشكل مخالفة صريحة ومباشرة للقانون، وكان قرار التكليف باطلاً بطلاناً مطلقاً. لقد كان هذا النص يوفر يقيناً قانونياً كاملاً لجميع الأطراف.
لكن هذا اليقين القانوني قد تبدد بفعل "النسخ" أو "الإلغاء". فالمشرع في المادة 93 من النظام الأساسي الجديد لسنة 2024، نص بشكل واضح وصريح على ما يلي: "وتنسخ ابتداء من نفس التاريخ: - مقتضيات المرسوم السالف الذكر رقم 2.02.854 الصادر في 8 ذي الحجة 1423 (10 فبراير 2003)، مع مراعاة مقتضيات المواد 79 و 84 و 88 أعلاه". إن هذه العبارة هي الدليل القاطع على الإلغاء، فبما أن مرسوم 2022 المانع للتكليف كان مجرد تعديل وتتميم لمرسوم 2003، فإن نسخ الأصل (مرسوم 2003) يترتب عليه بالضرورة نسخ الفرع (تعديل 2022)، وهي قاعدة قانونية معروفة.
إن هذا الإلغاء ليس مجرد تعديل تقني، بل هو بمثابة تحول في الفلسفة التشريعية. فالمشرع، باختياره الانتقال من نص مانع وواضح إلى نصوص عامة وغامضة، لم يضفِ الشرعية على التكليف، بل أعاد النزاع إلى دائرة التأويل، ناقلاً عبء الإثبات من الإدارة إلى الموظف. هذا التحول يعكس نية واضحة لاستعادة هامش من السلطة التقديرية للإدارة، وخلق "غموض استراتيجي" يسمح لها بالمناورة، ويجعل من القضاء الإداري، وليس النص، هو الحكم النهائي في النزاع. لقد انتقل الموظف من منطق "الحماية بالنص" إلى منطق "الدفاع بالتفسير"، وهو ما يعكس موازين قوى جديدة بين الإدارة ومن يخضع لسلطتها.

المبحث الثالث: في غياب الاجتهاد القضائي: ترجيح الموقف القانوني

في ظل هذا الفراغ التشريعي والتأويلي، وفي غياب تام لأي اجتهاد قضائي منشور يحسم في هذه الإشكالية، يبقى على الفقه والقضاء المستقبلي مهمة الموازنة بين الحجج المتقابلة.
فالإدارة، بدفعها بضرورة استمرارية المرفق العام، تستند إلى مبدأ دستوري، لكنها تتجاهل أن تحقيق الغايات العامة لا يمكن أن يتم بوسائل غير مشروعة أو عبر خرق حقوق الموظفين التي كفلها القانون. فمبدأ استمرارية المرفق العام لا يعني منح الإدارة "شيكاً على بياض" لتجاوز مبدأ الشرعية.
في المقابل، فإن موقف هيئة التدريس، المستند إلى المادة 5 ومبدأ تدرج القواعد القانونية (حيث لا يمكن لمذكرة أن تخالف مرسوماً)، يبدو أكثر رسوخاً من الناحية القانونية الصرفة. فالقاضي الإداري، قاضي الشرعية بامتياز، يميل بطبيعته إلى حماية الفرد في مواجهة السلطة، ولا يلجأ إلى تغليب المصلحة العامة إلا في إطار احترام النصوص الواضحة. وفي هذه الحالة، فإن نص المادة 5 يبدو واضحاً في تقييده لسلطة الإدارة.

خاتمة: خلاصة تركيبية ورأي ختامي

إن تحليلنا للإطار القانوني يكشف أننا لسنا أمام فراغ تشريعي بقدر ما نحن أمام غموض تشريعي مقصود، نتج عن إلغاء نص كان يوفر اليقين القانوني. هذا الغموض خلق صراعاً بين تفسيرين: تفسير إداري يميل إلى توسيع السلطة باسم المصلحة العامة، وتفسير حقوقي يميل إلى تقييدها باسم سيادة القانون.
وبناءً عليه، فإن الرأي القانوني المرجح هو أن قرار الإدارة بإلزام أساتذة التعليم الابتدائي بحراسة امتحانات البكالوريا، في ظل النظام الأساسي الحالي، هو قرار يفتقر إلى السند القانوني الصريح، ويشكل مخالفة محتملة للمادة 5 من المرسوم رقم 2.24.140. فإلغاء النص المانع لم ينشئ نصاً مجيزاً، بل ترك الوضع معلقاً على القواعد العامة التي تميل، في قانون الوظيفة العمومية، إلى حماية الموظف وتحديد واجباته بدقة.

وختاماً، لا يمكن حل هذا الإشكال المتكرر إلا بأحد سبيلين: 

إما بتدخل تشريعي حاسم يوضح نطاق مهمة المشاركة في الامتحانات بشكل لا لبس فيه، مع تحديد التعويضات المترتبة على أي تكليف استثنائي، وإما باجتهاد قضائي رصين من محاكمنا الإدارية، يرسم الحدود الفاصلة بين السلطة والحق، ويعيد للجميع الطمأنينة واليقين القانوني. وإلى أن يتحقق ذلك، سيبقى هذا الجدل شاهداً على أن وضوح القاعدة القانونية ليس ترفاً فكرياً، بل هو شرط أساسي لاستقرار المرافق العامة وحسن سيرها.

إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة

أحدث أقدم

نموذج الاتصال