مقدمة: قطيعة تشريعية أم استمرارية تحت ضغط الواقع؟
لطالما شكلت الممارسة الإدارية المتمثلة في "تكليف" أطر هيئة التدريس بمهام الإدارة التربوية، استجابة لضغوط الخصاص البنيوي في الموارد البشرية، واقعاً إدارياً متجذراً في قطاع التربية الوطنية. هذه الممارسة، التي تقع عند تقاطع الضرورة العملية والمبدأ القانوني، كانت تُقبل على مضض كحل مؤقت تفرضه المصلحة الظاهرية لتسيير المرفق العام. غير أن التحولات التشريعية العميقة التي جاء بها النظام الأساسي الجديد، الصادر بموجب المرسوم رقم 2.24.140 بتاريخ 23 فبراير 2024، تفرض علينا اليوم إعادة طرح السؤال من جديد.
إن الوقائع النموذجية التي تؤطر هذا النقاش بسيطة في شكلها، عميقة في دلالاتها: مديرية إقليمية أو مؤسسة تعليمية تواجه شغوراً في منصب إداري (مدير، حارس عام...)، فتلجأ، عبر مذكرة أو قرار إداري، إلى تكليف أستاذ، غالباً من ذوي الأقدمية، للقيام بهذه المهام لسد الخصاص. هذا الإجراء، الذي كان يجد في مرونة النصوص السابقة متكأً له، يوضع اليوم أمام اختبار الصرامة التنظيمية للنظام الأساسي الجديد.
وعليه، تتبلور الإشكالية المحورية التي ستحكم تحليلنا في السؤال الجوهري التالي:
هل أحدث المرسوم الجديد قطيعة تشريعية تامة مع ممارسة تكليف الأساتذة بمهام إدارية، أم أنه ترك، صراحة أو ضمناً، منفذاً لسلطة الإدارة التقديرية تحت ضغط الخصاص وضرورة استمرارية المرفق العام؟
للإحاطة بجوانب هذه الإشكالية، سنعتمد تصميماً منهجياً ينطلق من تحليل الهندسة التشريعية الجديدة التي أرساها مرسوم 2024 باعتبارها مفتاح فهم قصد المشرع (المبحث الأول)، قبل أن نتناول مسألة تقييم الحجج الواقعية في مواجهة منطق الشرعية القانونية الصريح (المبحث الثاني).
المبحث الأول: الهندسة التشريعية الجديدة وتكريس مبدأ التخصص الوظيفي
إن فهم الموقف القانوني من مسألة التكليف لا يمكن أن يتم عبر قراءة معزولة لمادة قانونية واحدة، بل يتطلب استيعاب الفلسفة التشريعية التي حكمت بناء النظام الأساسي الجديد برمته. هذه الفلسفة تقوم على مبدأ جوهري هو التخصص الوظيفي، الذي يتجلى في مظهرين متكاملين: الفصل الصارم بين الهيئات، والتحديد الحصري للمهام.
المطلب الأول: الفصل بين الهيئات كإعلان عن نهاية "السيولة الوظيفية"
إن السمة الهيكلية الأبرز في المرسوم الجديد هي تنظيمه الدقيق لموظفي القطاع في "هيئات" متمايزة ومستقلة وظيفياً. فلم يعد الأمر مجرد تعداد للوظائف، بل هو خلق لمسارات مهنية متوازية ومغلقة على نفسها، لكل منها شروط ولوجها ومهامها وترقيتها الخاصة. والهيئتان المعنيتان مباشرة بإشكاليتنا هما:
هيئة التربية والتعليم: وتشمل "أطر التدريس".
هيئة الإدارة التربوية والتدبير: وتشمل "المتصرفين التربويين".
هذا الفصل الصارم ليس مجرد ترتيب إداري، بل هو إعلان عن مبدأ التخصص القانوني والمهني. فالانتقال من هيئة التدريس إلى هيئة الإدارة لا يمكن أن يتم إلا عبر الآليات التي نص عليها القانون صراحة (النجاح في مباراة تغيير الإطار)، وليس عبر إجراء إداري مؤقت كالتكليف. إن وجود مسالك تكوين متخصصة، كمراكز تكوين أطر الإدارة التربوية، يؤكد أن المشرع أراد لكل مهمة (التدريس أو الإدارة) أطرها المؤهلة تكويناً وقانوناً.
وبالتالي، فإن بنية المرسوم ذاتها تشكل الحجة البنيوية الأولى ضد إمكانية تكليف أستاذ بمهام إدارية، فهذا الإجراء يمثل خرقاً لمبدأ الفصل بين الهيئات الذي يشكل العمود الفقري للنظام الجديد.
المطلب الثاني: التحديد الحصري للمهام وسياج الحماية القانونية
لم يكتفِ المشرع بالفصل الهيكلي، بل عززه بتحديد دقيق وحصري لمهام كل هيئة. فمهام أطر التدريس حُددت في "التربية والتدريس"، و"التقييم والدعم"، و"التعاون والتنسيق"، و"المشاركة في تنظيم الامتحانات". والأهم من ذلك، أن المادة 5 من المرسوم الجديد نصت بشكل قاطع على أنه: "لا يمكن إلزامهم بمزاولة مهام غير تلك المسندة إليهم طبقا للنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل". هذه المادة تشكل سياجاً قانونياً وحصناً منيعاً، تمنح الموظف حماية قانونية صريحة ضد أي تكليف بمهام خارج نطاق إطاره ومهامه المحددة قانوناً.
وفي مقابل ذلك، تم تحديد مهام إطار "المتصرف التربوي" بشكل واضح، باعتباره المسؤول عن مهام الإدارة التربوية بمختلف أبعادها.
ولعل الحجة القاطعة تكمن في الطريقة التي قنن بها المشرع نفسه مفهوم "التكليف الرسمي" داخل المرسوم. فالمادة 24 نصت على أن المتصرفين التربويين غير المزاولين لمهام الإدارة التربوية يمكن أن يقوموا بمهام الدعم "بناء على تكليف رسمي". هذا الاختيار التشريعي له دلالة قانونية عميقة، فبموجب المبدأ الأصولي الراسخ (النص على الشيء يستلزم ضمناً استبعاد ما عداه)، فإن ذكر المشرع لحالة التكليف الوحيدة المسموح بها قانوناً (للمتصرفين التربويين) يعني استبعاد جميع الحالات الأخرى التي سكت عنها. لو أراد المشرع السماح بتكليف الأساتذة، لنص على ذلك صراحة كما فعل مع غيرهم. إن سكوته هنا، مع تقنينه لحالة أخرى، هو سكوت بليغ يحمل قوة المنع.
المبحث الثاني: مواجهة الحجج الواقعية بمنطق الشرعية القانونية
قد تتمسك الإدارة، في دفاعها عن استمرار هذه الممارسة، بمجموعة من الحجج المستمدة من الواقع الإداري، وعلى رأسها ضرورة استمرارية المرفق العام وضغط الخصاص. إلا أن هذه الحجج، مهما بدت وجيهة من منظور تدبيري، فإنها لا تصمد أمام التحليل القانوني الصارم.
المطلب الأول: دحض حجة "استمرارية المرفق العام"
إن مبدأ استمرارية المرفق العام هو من المبادئ الأساسية للقانون الإداري، ولكنه ليس مبدأ مطلقاً يسمح للإدارة بخرق القانون. فالغاية لا تبرر الوسيلة غير المشروعة. إن استمرارية المرفق العام يجب أن تتحقق بالوسائل التي حددها القانون نفسه. والنظام الأساسي الجديد، حين قنن تكليف المتصرفين التربويين غير المعينين، قد وفر للإدارة آلية قانونية مرنة لضمان هذه الاستمرارية. فتجاهل هذه الآلية القانونية واللجوء إلى آلية أخرى غير منصوص عليها (تكليف الأساتذة) لا يمكن تبريره بمبدأ الاستمرارية، بل هو اختيار إداري مخالف للقانون.
المطلب الثاني: "ضغط الخصاص" كواقع إداري لا كمسوغ قانوني
لا يمكن أن تشكل حجة "الخصاص" أو "الضرورة" دفاعاً قانونياً سليماً لتبرير مخالفة نص قانوني صريح وحديث. فالخصاص هو مشكلة بنيوية مزمنة، تتطلب حلولاً بنيوية (التوظيف، التكوين، التخطيط المحكم للموارد البشرية). أما استخدام التكليف غير القانوني كحل دائم لهذه المشكلة فهو اعتراف ضمني بفشل التخطيط الإداري، ولا يمكن أن يكون هذا الفشل مبرراً لخرق القانون.
إن المصلحة العامة الحقيقية لا تكمن في إدامة الحلول الترقيعية غير القانونية، بل في التطبيق السليم للقانون الذي يهدف إلى المهنية والتخصص وتجويد الإدارة التربوية. إن اللجوء المستمر للتكليف لسد عجز بنيوي يرقى إلى مستوى "الانحراف بالسلطة"، حيث تستخدم الإدارة صلاحية استثنائية لتحقيق هدف غير الذي قصده المشرع، وهو التحايل على المساطر القانونية للتوظيف والتكوين.
أما مسألة التعويض المالي الذي قد يُصرف للأستاذ المكلف، فهي لا تضفي أي شرعية على قرار التكليف. فالتعويض المالي لا يصحح عيباً قانونياً أصيلاً في القرار الإداري. إن قانونية القرار تُقاس بمدى مطابقته للقانون الذي ينظمه، وليس بالآثار المالية المترتبة عليه. فالتعويض يهدف إلى جبر ضرر أو مقابلة جهد إضافي، لكنه لا يمكن أن "يشتري" الشرعية لقرار باطل في أساسه.
خاتمة: نحو تكريس سيادة القانون في التدبير الإداري تحت رقابة القضاء
على ضوء ما سبق، نخلص إلى نتيجة قانونية مركبة، تتقاطع فيها إرادة المشرع الصريحة مع الدور الحاسم للقضاء في حمايتها:
أولاً: إن النظام الأساسي الجديد، بهندسته القائمة على الفصل الصارم بين الهيئات، والتحديد الحصري للمهام، والحماية القانونية للموظف، قد أفرغ ممارسة تكليف الأساتذة بمهام إدارية من أي سند قانوني، جاعلاً إياها إجراءً مخالفاً لروحه ونصه.
ثانياً: إن التوجه العام للمشرع يتجه بوضوح نحو التخصص، فالغاية هي وجود أطر تدريس متفرغة لمهامها البيداغوجية، وأطر إدارة متخصصة ومؤهلة لمهامها التدبيرية.
ثالثاً: وعليه، فإن أي قرار إداري يصدر اليوم بتكليف أستاذ بمهام الإدارة التربوية يعتبر قراراً معيباً من الناحية القانونية. وهنا يبرز الدور الجوهري للقضاء الإداري.
رابعاً: عند عرض نزاع من هذا النوع على القضاء الإداري، ووصولاً إلى محكمة النقض بصفتها موحدة للاجتهاد القضائي، فإنها لن تكتفي بالنظر إلى ضرورات الواقع التي تتمسك بها الإدارة. بل ستمارس رقابتها الكاملة على مشروعية القرار الإداري، مستندة في ذلك إلى المبادئ الراسخة التالية وهي:
مبدأ الشرعية وسيادة النص الخاص حيث سيعطي القاضي الإداري الأولوية المطلقة للنص القانوني الصريح والخاص، المتمثل في المرسوم رقم 2.24.140، على أي مذكرات تنظيمية أدنى درجة أو أعراف إدارية سابقة. فالقاعدة أن القانون الخاص يقيد العام، والنص الجديد الواضح ينسخ كل ممارسة تخالفه.
رقابة قصد المشرع، فلن تقف محكمة النقض عند التفسير الحرفي للنصوص، بل ستبحث عن "قصد المشرع" وغايته. ومن خلال بنية النظام الأساسي الجديد، سيتضح لها جلياً أن المشرع قصد إحداث قطيعة مع الممارسات السابقة وتكريس التخصص، مما يجعل أي قرار تكليف للأساتذة مناقضاً لهذه الغاية التشريعية.
حماية الحقوق المكتسبة للموظف حيث سيعتبر القضاء أن الإطار والمهام المحددة قانوناً هي من الحقوق المكتسبة للموظف، وأن قرار التكليف يمثل مساساً بوضعيته النظامية التي لا يمكن تغييرها إلا وفقاً للقانون.
رقابة عيب الانحراف بالسلطة لأنه إذا ثبت للقاضي أن الإدارة تستخدم "التكليف" كأداة ممنهجة لتدبير الخصاص البنيوي، فإنه قد يكيف هذا المسلك على أنه "انحراف بالسلطة"، أي استخدام سلطة قانونية لتحقيق غاية غير التي وجدت من أجلها، وهو التحايل على مساطر التوظيف والتعيين القانونية.
إذا أعجبك الموضوع، اضغط إعجاب للصفحة
